الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012


اقتصاد القرن الـ 21


يحاول هذا الكتاب إنشاء قدر كاف من الوضوح للكثير من حالات عدم اليقين التي تصاحب ثورة المعرفة التكنولوجية، من اقتصادية واجتماعية وتقنية، وتوفير فهم أفضل لما في عالم اليوم من تغيرات اقتصادية كبيرة، وقد أسهم في إعداد الكتاب 18 عالما بارزا يعملون في مختلف الجامعات والمؤسسات العلمية الغربية تركزت مهامهم على تقديم تحليلات للعوامل الفاعلة التي تشكل الأنظمة الاقتصادية، وتخمين الموقع الذي تقود إليه هذه الاتجاهات.
وتقوم فكرة المؤلفين على مقولة إن ثورة المعلومات الحالية تخلق أنظمة جديدة للاقتصاد السياسي، تماما كما خلقت الثورة الصناعية الأنظمة القديمة التي تتحول الآن، فلأول مرة في التاريخ تنظم الشؤون الاقتصادية سعيا وراء المعرفة، كما تدفع هذه القوة الجديدة لإدارة المعرفة باتجاه إعادة بناء البنى الاقتصادية، حيث تتيح زيادات هائلة في الإنتاجية وإزالة العمل الروتيني وتوفير قنوات أكثر للتوزيع وافتتاح أسواق ضخمة جديدة وتسهيل العمليات العالمية في كل المجالات تقريبا.
ويتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء، يستكشف الجزء الأول القوى التي تحرك التغير الاقتصادي، ويبين الجزء الثاني الآثار الاقتصادية الجزئية التي تترتب على بنية وسلوك منشآت الأعمال، في حين يفحص الجزء الثالث أنظمة الاقتصاد السياسي الجديدة – الناشئة.
القوى التي تشكل النظام الاقتصادي الجديد
يتكون هذا الجزء من خمس دراسات، التحولات: قوى التغير الرأسمالي، لأرنست ستيرنبيرج من جامعة نيويورك، ويقدم بيتر ديكن من جامعة مانشستر بإنجلترا دراسة بعنوان العولمة: منظور اقتصادي – جغرافي، ويعرض وليام هلال من جامعة واشنطن أفكارا حول السيطرة على الطاقة الهائلة للمعرفة، ويقد آلان ج. سكوت من جامعة كاليفورنيا المحركات الإقليمية للاقتصاد العالمي، ويقدم أميتي إتزيوني من جامعة جورج واشنطن دراسة بعنوان البساطة الإرادية: هل هي حركة اجتماعية جديدة؟
يقول وليم هلال إن العالم استخدم في عام 1997 مليار جهاز حاسوب شخصي، طاقة كل واحد منها تزيد على طاقة الأجهزة التي كانت سابقا تحتل غرفا كاملة، وتكلف ملايين الدولارات، ويتطلب تشغيلها فرقا كاملة من العاملين، .. إن التغيرات الكبرى حقا لم تأت بعد.وتعبر الدراسات الخمس عن فكرة أن الاستعمال الإلكتروني لتكنولوجيا المعلومات، وانتقال الأسواق الحرة على النطاق العالمي، والتعطش الواعي للتحديث، وقوى العولمة المؤثرة الأخرى تقوم كلها بخلق أحد أكثر الاتجاهات إثارة في عصرنا، توحيد العالم المتنوع في كل متماسك، وإذ يتحرك رأس المال والمعلومات والتكنولوجيا والأفراد عبر الحدود، فإن هذه العملية التوحيدية تقوم الآن بدمج أوروبا الغربية والشرقية في مجتمع اقتصادي واحد، وإزالة الحواجز الاقتصادية بين بلدان القارة الأمريكية وتكوين المحيط الهادئ الديناميكي، وعاجلا أم آجلا، قد تدمج القوى نفسها التكتلات الاقتصادية بعضها ببعض لخلق تجارة مفتوحة بين معظم الدول وأسواق نامية ضخمة جديدة، وشكل ما للحكم العالمي.
ويعتبر وليام هلام أن هذه الاتجاهات تثير أسئلة حاسمة عن طبيعة الحياة الاقتصادية في المستقبل، وعن الأشياء المتشابهة التي يمكن استخلاصها من الثورة الصناعية لرسم خطوط ثورة المعرفة، وفي أي طريق ينبغي للنظام العالمي الجديد أن يكون مجرد توسع للأنماط الاقتصادية والسياسية السابقة، وفي أي طريق يختلف عنها؟ وما أهمية هذا الرافد العميق في التاريخ؟
لقد كثرت أفكار التغير الراديكالي منذ نصف قرن، وانتشرت بسرعة، وبقدر ما وهن الإيمان بالتقدم، كما يبدو، وقد أبرزت نفسها ليس فقط عصور ما بعد الصناعة، وما بعد الحداثة، ولكن أيضا العصر الذري، وعصر الحاسوب، وعصر الفضاء، وعصر الجينات، وفي سياق ملاحظة أبعاد التغيير الجارية في مختلف الاتجاهات في غالب الأحيان تكون متناقضة، يصف أرنست ستيرنبرج التحولات التجارية، ويعرف الإمكانات الاقتصادية المتعددة في القرن الـ 21، ويجد ستيرنبيرج أن الرأسمالية عملية ديناميكية وتطورية، لم تعمل على توجيه التغير الاقتصادي وحسب، بل عملت وبدرجة متزايدة على توجيه الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية والشخصية للمجتمع، وهو يدعو إلى طرح علم اقتصاد جديد تفسيري يمكننا من التأثير على التحديات والفرص الاقتصادية المتعددة.
ويلاحظ بيتير ديكن التأثيرات الثورية لتكنولوجيا الاتصالات، ولكنه يتابع ذلك لتفسير كيف أن القوى والقيود الأخرى أسهمت في تشكيل بنية الاقتصاد العالمي الناشئ، ويشير ديكن إلى أن قوى الحكومات الوطنية والشركات متعددة الجنسية والتكنولويجا قد جعلت من المسافات والمواقع الجغرافية أمرا أساسيا لفهم الاقتصاد العالمي في القرن الـ 21، لقد خفضت الثورة التكنولوجية الناشئة من تتابع الابتكارات الجزئية وتكاليف المعاملات إلى مستويات تتيح عمل أي شيء في أي مكان ومن ثم بيعه في أي مكان من العالم.
وأشار الاقتصادي الناقد كارل بولانيي في ذروة الحرب العالمية الثانية إلى أن الكساد والحرب العالمية ميزتا نهاية رأسمالية القرن الـ 19، وعالما اقتصاديا هيمنت فيه على المجتمع الغربي سياسة عدم التدخل الحكومي القائمة، وفي الرأسمالية المتحولة مجددا التي أخذت مكانها، توصل المجتمع إلى أساليب لحماية نفسه من فوائض السوق، وحاولت سياسة التوجيه الحكومي، والسياسة العامة، والنقابات حماية الجمهور والبيئة والعمال، وهدفت السياسة الاقتصادية الكلية والسياسة التجارية إلى حماية الاقتصاد نفسه، بينما سعت الاتحادات الاحتكارية والشركات القابضة لحماية منشآت الأعمال من أهواء المنافسة المتواصلة.
وبقدر ما ساعدنا مجتمع القرن الـ 20 الصناعي على توسيع شخصياتنا لتتجاوز أبعادا معنية، كالطبقة والجنسية ومكان العمل، ومن ثم ولاءات جديدة، فقد فرضت التغيرات في المجتمع الصناعي تهديدات أكبر على العشائر والأعراق والأديان، وأدت إلى عصر أعدنا فيه اكتشاف تمسكنا بمعتقدات أصولية، ولذلك فإن العصور الرأسمالية الجديدة لا تظهر فقط من خلال التقنيات الجديدة، ولا بوصفها اتجاهات إضافية فقط، ولا باعتبارها تغيرات بنيوية تحدث بعيدا عن إدراك الممثلين البشريين فحسب، بل على العكس فهي حقا الآثار للتحولات، فالتحول الرأسمالي يغير الممثلين (أفراد ومنظمات ومؤسسات) الذين يشاركون فيه.
ويستنتج هلال مجموعة واسعة من الأدلة والآراء لتحديد أسس اقتصاديات المعرفة مركزا على الدور التغييري الذي تقوم به المنشأة العالمية، ويستنتج هلال أن القواعد الفريدة للمعرفة تقود ثلاثة اتجاهات كبرى هي بمثابة ثورات، بفضل دورها هي ذاتها وسط قطاع الأعمال والمؤسسات الأخرى: التحول من السيطرة إلى الحرية، ومن الخلاف إلى الوفاق، ومن المادية إلى المعرفة والروح، وهو يوحي أيضا بأن هذه القوى قد تحدث انقلابا في الفكر الاقتصادي.
النماذج الناشئة للمنشأة
يستعرض هذا الجزء عبر خمس دراسات التصورات الجديدة الناشئة في حقل إدارة الأعمال وباقي المؤسسات الاقتصادية، فقد أبطلت تكنولوجيا المعلومات، والمنافسة العالمية، المطالبات المتعلقة بالبيئة، ونشوء فئة من المستخدمين والمستهلكين أكثر تعلما لهرمية التقليدية لقطاع الأعمال، فالشركات تعيد تصميم أجهزتها البيروقراطية القديمة للأعمال، وتحولها إلى أنظمة أكثر كفاءة لتسليم السلع والخدمات، وتقلل من مركزية العمليات باتجاه خلق وحدات شبه مستقلة، وتعيد تعريف علاقاتها مع مختلف الأطراف، وتخلق هذه التغيرات مزيجا من التنافس والتعاون.
ويقدم ستين أ. ثور من المعهد العالي للتكنولوجيا في لشبونة مخططا لنموذج جديد يتابع آثار التحول السريع لاقتصاد السوق في عصر المعلومات، ويستند هذا النموذج إلى أربعة مبادئ:
1- تكون دورات حياة منتجات المعرفة قصيرة بسبب شدة تطور المنتجات.
2- تحقق المنشآت التي تبيع بنجاح المنتجات الأكثر تطورا معدلات نمو مثيرة، يمكن تسميتها بالنمو المفرط، وفي الوقت نفسه فإن الشركات التي تتصف ببطء إنتاجها يمكن أن تواجه انهيار أسواقها بين ليلة وضحاها.
3- تمضي الشركات ذات التقنية العالية عادة على مسار ديناميكي بعيدا عن التوازن طوال الوقت، والمسار هذا غير خطي، ويتضمن إمكانية حصول فوضى.
4- وفي الإطار الناشئ للاضطراب الصناعي سينبثق تطور تقني سريع، يحقق نوعا من التوازن بين أشياء وهجران أشياء أخرى، وبين تصريف المنتجات الجديدة وانطلاق الشركات المبتدئة الجديدة، وعمليات الدمج والإفلاس.
ويتوقع الباحثون أن المنشآت الخلوية ستحقق من المعرفة الفنية يتجاوز مستوى الأشكال التنظيمية السابقة، وذلك بجمع طاقات المنظمين، والتنظيم الذاتي، والملكية المشتركة للأعضاء، ويلاحظون أنه عبر الاقتصاديات الوطنية والإقليمية فإن العصور المتداخلة من النمطية، والتعديل، والابتكار، ستستمر بالتطور، وستحدث تغييرات جديدة في الأشكال التنظيمية والهرمية والشبكات والخلوية. ويلاحظ راسل ل.أكوف، أحد عمداء الفكر الإداري الحديث أن الدراسات حول المنشآت أظهرت أن ثلثي الإدارة النوعية الكاملة كانت مخيبة، وتبين دراسات أخرى أن معظم جهود سياسية تخفيض الحجم تؤدي إلى زيادة التكاليف.ويحتل اقتصاد نشاط الأعمال النظيف بيئيا (الاقتصاد الأخضر) اهتماما متزايدا، ويشير تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية إلى أنه لا بد من تعزيز الإجراءات اللازمة للحد من التلوث الصناعي، والسيطرة عليه، والوقاية منه، وإذا لم يتحقق ذلك، فإن خطر التلوث على صحة الإنسان قد يتعذر تحمله في مدن معينة، ويتزايد تهديد الرفاهية، وإذا أريد للتنمية المستدامة أن تكون مستديمة على المدى الطويل، فلا بد من تغيير جذري في نوعية تلك التنمية.ويمكن للشركات التي تستعمل نظام الإدارة البيئية والحسابية لتحقيق النشاط الاقتصادي النظيف أن توفر المال وتكسب الميزة التنافسية من وراء ذلك، ولكن ما زالت طرق الإنتاج النظيف بطيئة، وهناك اتفاق على ضرورة وجود تشريعات تضمن تحسين النوعية البيئية، ويمكن للصياغة الجيدة للسياسة الاقتصادية والبيئية على حد سواء جعل التنمية المستدامة أمرا بسيطا ومجديا.
بين مبدأ عدم التدخل الحكومي والسياسة الصناعية
رغم انتصار الرأسمالية وانهيار الشيوعية الاشتراكية فهناك ارتباك هائل تحت سطح هذا الاعتقاد العام، فثمة اقتصاديون كثيرون يعتقدون أن الأسواق وليست الرأسمالية هي التي تنتشر في المعمورة، وأن هذين المفهومين لا يعنيان الشيء نفسه على الدوام نظرا إلى أن أنظمة السوق تختلف إلى حد بعيد.
ومما يزيد من الحيرة والارتباك هو أن الغرب الرأسمالي يواجه أزمة اقتصادية كبرى في وقت يسود فيه الاعتقاد بأن الرأسمالية قد انتصرت، وتقوم أوروبا والولايات المتحدة الآن بالحد من توجيهها وإشرافها على الأسواق وسحب أعانا الرفاهية الاجتماعية السابقة، وذلك لإنعاش المؤسسات الاقتصادية، ولكن ظهور الأسواق التنافسية المتوحشة، وفقدان الدعم العام يمكن أن يثير اضطرابات سياسية حادة.
ويعتقد جيمس أنجريسانو من كلية ألبرستون في إدابو أن الميراث العالمي من الفكر الاقتصادي يمكن أن يفيدنا كدليل نحو تطوير منظور اقتصادي جديد، ويحدد نقطة البداية الصحافية في فلاسفة الاقتصاد البارزين: جونار ميردا، وجوزيف شومبيتر، وفريدريك هايك، ويمكن برأيه لدراسة واستجلاء الجوانب الرئيسة في فكر هؤلاء العلماء للواقع وانتقاداتهم للاقتصاد الكلاسيكي الجديد وطرق تحليلهم واستنتاجاتهم أن تخدم كأساس متين نبدأ منه ببناء نموذج اقتصادي جديد.
ويذهب روبرت ج. ماك أنتير من جامعة الأمم المتحدة في هلسنكي إلى أنه رغم أن صناع القرار والخبراء في مختلف أنحاء العالم كانوا يتحاورون فيما بينهم كخبراء كلاسيك جدد، فإن الكيان النظري الذي حملوه ليس هو المسؤول عن الدمار الذي تسببوا به، بل برنامجهم السياسي المرافق الخفي والمتأثر بالنظرية الكلاسيكية الجديدة، هذه الأشياء الأيديولوجية في رأي أنتير والمرافقة للتفكير الكلاسيكي الجديد كان لها أثرها بالفعل في منع تطبيق منطق السوق على تلك الأوضاع، وإعاقة المناقشة الواضحة حول ما كان يتخذ، ولماذا، وباسم من؟
ويؤمن ألتير أن المنظور الكلاسيكي الجديد فشل في التفكير الواضح بشأن آليات الاختيار في المدى القصير وتباعد مميزات البقاء في المدى القصير عنها في المدى البعيد في ظل الظروف المحددة لعملية التحول، وبذلك فإن سيطرة هذه المدرسة الفكرية قد رعت التكتم المأساوي تقريبا للحكومات في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق التي ركزت انتباهها على خلق الجوانب السطحية من الحداثة السوقية مع عدم الاهتمام الجدي تقريبا بمتطلبات النجاح في ظل الظروف القائمة بالفعل في سوق الرأسمالية العالمية المعاصرة.
تجميع الفكر الاقتصادي التقدمي
تضع خاتمة الدراسات كما يصوغها وليام هلال وكينيث ب. تايلر كل فصول الكتاب في ملخص متماسك للأنظمة الاقتصادية التي يحتمل أن تتطور في أوائل القرن الـ 21، ويعتقدان أنه رغم وجود التحديات الكثيرة فإن الأدلة تشير إلى أن ثورة المعرفة تدفع الدول في كلا الاتجاهين خالقة إمكانية تصميم اقتصاديات نابضة بالحياة وأكثر إنتاجية لأنها بالذات تشجع العمل الحر المنسجم اجتماعيا.
وتنتهي هذه الدراسة التحليلية إلى خمسة استنتاجات رئيسة:
1- يحتمل أن تتكامل اقصاديات القرن الـ 21 من خلال شبكات المعلومات الرفيعة، وتتحول إلى اقتصاد عالمي موحد من نوع ما.
2- يمكن أن تشهد اقتصاديات القرن الـ 21 المزيد من سياسية الحد من التوجيه أو التدخل الحكومي وإلى درجة تقترب فيها أنظمة الأسواق من حالة المنافسة الكاملة.
3- إن هدم البناء الناجم عن الانتقال إلى اقتصاد عالمي يقوم على المعرفة سيستمر بخلق الفوضى الاجتماعية إلى أن يتم تعريف أيديولوجيات جديدة للنظام الاقتصادي في القرن الـ 21.
4- قد تتشكل المنشآت في القرن الـ 21 كأنظمة مشروع داخلي، وذلك لإدارة التعقد، كما أنها ستوحد أيضا مختلف الأطراف المعنية في تحالفات رفيعة، وتزيد من القيمة الاقتصادية.
5- على المدى الأطول (10 – 50 سنة) قد تطور اقتصاديات القرن الـ 21 أسسا أيديولوجية جديدة، تجسد درجات متغيرة من سلوك السوق الحرة والتماسك الاجتماعي معا ضمن سياق غرض وقيم ومعنى أرفع على الجانب الآخر من الألفية الجديدة.
وفي الواقع يذهب هلال إلى أن هذا التطور من شأنه أن يعني أن الناس ربما لن يفكروا باقتصاديات السوق الحركة كـ ''رأسمالية'' رغم أن هذه الاقتصاديات قد تكون حرة أكثر وتنظيمية أكثر، ومع انتقال العنصر المهم للإنتاج من رأس المال إلى المعرفة، فإن الأنظمة الاقتصادية على الجانب الآخر من الألفية يمكن أن يتم التفكير بها على نحو أفضل باستعمال مصطلحات مثل ''المشروع الديمقراطي'' أو ''المشروع الإنساني''. وإذا كانت ثورة المعلومات ثورة اقتصادية حقيقية بالفعل، حيث يمكن مقارنة أهميتها بالثورة الصناعية، فمن المعقول كما يبدو أن نستنتج بأن المحصلة ستكون ظهور مجتمع مختلف على نحو مثير، وتوحي الأدلة التي تجمعت هنا بأن النظام الاقتصادي في القرن الـ 21 سيؤلف قوة الأسواق الحرة والمجتمع ويحولها إلى فلسفة مفهومة على نطاق واسع لعلم الاقتصاد.
الحركة العامة للإقتصاد المصرى فى نصف قرن
بين التبعية وإقتصاد تجارة الشنطة

محمد دويدار


يدين د. محمد دويدار أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية سياسة الانفتاح الاقتصادي وفق اعتبار مبدئي وهو أنه تم التعامل معها حتي الآن علي أنها "شعار مقدس لا مساس به". ويتتبع في كتابه عن إصدارات سطور الجديدة حركة اقتصاد الدولة المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عبر مرحلتين بلورهما الاقتصاد الدولي المعاصر رغم الأزمة العامة التي اقترنت به لكونه "اقتصاد حروب" تحكمه قواعد "السوق العشوائي". لهذا كانت خطوة الانفتاح بمثابة محاولة للخروج من أزمة اقتصادية مصرية إلي الاندماج في أزمة اقتصادية دولية.


"الحركة العامة للاقتصاد المصري في نصف قرن.. رؤية استراتيجية بين التبعية واقتصاد تجارة الشنطة" ليس كتابا في الاقتصاد فقط، بل هو كما يوضح تخصص مؤلفه، يتعمق في أبعاد تدخل السياسة في اقتصاديات الدول، المتقدمة والمتخلفة، محللا فعلها الفاضح في فقد العذرية الاقتصادية لدول المستعمرات، وتعميم قانون قوة رأس المال بلا أخلاق. ففي المرحلة الأولي - الخمسينات والستينات - من مسار الاقتصاد المصري تتفكك دولة الملكية العقارية الكبيرة لصالح الإصلاح الزراعي لكنه يتبدد شيئا فشيئا. وفي المرحلة الثانية - من السبعينيات إلي اليوم - يتأكد التكريس للتخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر، وتبدأ التصفية البطيئة للقوي الإنتاجية للمجتمع المصري، عبر الخصخصة التي يعجلها تفاقم أزمة المديونية الخارجية للاقتصاد المصري خلال التسعينيات.



ولأن المؤلف اختار رصد مراحل حركة الاقتصاد المصري بواسطة حركة الاقتصاد الدولي، فمن الطبيعي أن تؤثر العوامل التي شكلت ملامح الاقتصاد العالمي في مسار الاقتصاد المصري. أو بمعني أدق يحلل الأساليب التي تعامل بها رأس المال الأجنبي مع رؤوس الأموال الوطنية، بدءا بسياسة "الاستقطاب المتزايد" ومحاولات "السيطرة العسكرية"، وانتهاء بسيادة الطبيعة الرأسمالية الاحتكارية علي نظم الملكية أو أنماط توزيع الدخل بين الطبقات الاجتماعية في المستعمرات، التي تم التعامل معها بوصفها "هياكل إنتاجية".



عسكرة الاقتصاد

علي غلاف الكتاب أيقونات دلالية لسيطرة رأس المال الدولي: شارة كود السلعة يتدلي منها حبل المشنقة، زجاجة مشروب غازي معروف تحشر في فوهتها البشر، وأخيرا عجوز فقير وطفل بائس يقبعان أعلي بعيدا لا يلتفت إليهما أحد. يحدثنا د. دويدار عن "السلوك العداوني لرأس المال الغربي" أو "عسكرة العلاقات الاقتصادية"، و"الجبروت الاقتصادي والسياسي والعسكري" كأوصاف عامة لنمط سلوك رأس المال الغربي الدولي تجاه المنطقة العربية ككل ومنها مصر. ومن هنا يتجول الكتاب في رحلة رأس المال الدولي وهو "يقيم لنفسه عالما ماليا" ويصبح ركيزة "للسطوة الاقتصادية" ومجلبًا للجاه الاجتماعي والسلطة السياسية، ووسيلة لنهب ثروات المجتمعات المستعمرة اقتصاديا وثقافيا وحضاريا، إلي حد تحويل أراضيها إلي "سلعة".



"السياسة هي الاقتصاد المركز"، وفق هذا المنطق تحددت كما يشرح الكتاب طبيعة العلاقات داخل منظومة الاقتصاد المصري بتأثير رأس المال الدولي المهيمن. وهو ما فرض الانصياع لما يطلق عليه "آلية قوي السوق"، التي بدورها تفرض العمل علي الإنتاج في جو مغلف بعدم اليقين والمخاطر، والابتعاد عن إشباع الحاجات لصالح هدف آخر هو "تعظيم الربح" أو بالتعبير الاقتصادي المعروف "تراكم رأس المال". ومن الطبيعي أن تجلب التوسعية الشيطانية لرأس المال أزمات و"نزوات" وتناقضات متعلقة بعمليات التضخم والتغلغل والاحتكار والمضاربة وحتي الركود.



حروب رءوس الأموال

الحقيقة التي يفندها المؤلف هي أن رأس المال يسود كعلاقة اجتماعية، مثلما يسود كحروب عالمية وصراعات مسلحة من أجل السيطرة علي السوق الدولية ومواطن استثمار رأس المال. ومن هنا يبدأ تنقسم مواقف رأس المال المحلي أو الوطني ما بين مقاوم للعدو، وآخر مهادن ومتحالف ومرتمٍ في أحضان المحتل الذي مارس عليه كل سياسات الاستقطاب والتطويع المشروعة وغير المشروعة.



ومن المعروف أن سياسات الاستقطاب الاقتصادي مورست بوجهين: أحدهما سياسي عبر تغيير المواقف من القضايا الوطنية والتحرر، والثاني اقتصادي متمثل في تحويل العالم إلي "سوق واحدة". وهذا هو الهدف الأعظم الذي يبيع من أجله النظام الرأسمالي الدولي كل غال ونفيس. ومع تحقق هذا الهدف كما يؤكد المؤلف تفقد المجتمعات المحتلة حتي بعد استقلالها قدرتها في السيطرة علي شروط الإنتاج داخلها وخارجها، وتتفكك أنظمتها السياسية الهشة أمام "غول" الرأسمالية والشركات دولية النشاط ومجموعاتها المالية العملاقة، التي يعتبرها المؤلف أشد أشكال رأس المال الدولي احتكارية.



الانفتاح مرادف للتفريط

مبدئيا، يري المؤلف أن حاضر المجتمع المصري متخلف اقتصاديا واجتماعيا، وذلك منذ النصف الثاني من القرن الماضي. بسبب عدة عوامل من بينها التركيب الطبقي للمجتمع المصري، وتفاوت الشرائح المجتمعية فيه "مجتمع تتباعد فيه المسافات بين الطبقات الاجتماعية"، وتذبذب وضع الطبقة المتوسطة "مجتمع حافل بالتناقضات الاجتماعية الصارخة"، إلي جانب مشكلة الفقر.



ورغم قدم الاقتصاد المصري في قدرته علي خلق فائض اقتصادي، إلا أن التاريخ يشهد سوء استخدامه واستهلاكه، وذلك عبر عدة ممارسات فاسدة من بينها التخصص في منتجات تلبي احتياجات الاقتصاد المتبوع، فقد تم في فترة سبعينيات القرن الماضي التحول من إنتاج المواد الغذائية كالأرز والقمح إلي إنتاج القطن وتصديره. إلي جانب تخلي رأس المال المحلي عن الدور الإنتاجي والاكتفاء بدور الوساطة التجارية بين ما ينتج في الخارج وما يستهلك في الداخل. وكان لسياسة الانفتاح الاقتصادي دور كبير في التفريط بالحقوق الاقتصادية، فقد وصل الأمر حد الهزل باستيراد فوانيس رمضان! لكن المشكلة الحقيقية لمرحلة الانفتاح الاقتصادي كما يراها المؤلف، هي اقترانها بتخبط السياسة الاقتصادية لمصر في تلك الفترة، وتناقض المصالح بين المسئولين عن قطاع الدولة الاقتصادي والعاملين في وحدات القطاع. ومثل هذه الأوضاع دفعت بمسألة تصدير الغاز إلي إسرائيل، التي يقدمها الكتاب باعتبارها تعني "تمييز العدو اقتصاديا"، ونتيجة طبيعية لانسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية في تلك الفترة، وارتمائها في أحضان المنظمات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.



"المناطق الحرة".. الليبرالية المتوحشة وأنياب الديمقراطية من وجهة نظر د. دويدار، تبدت الإجراءات الإصلاحية الخاصة بالإنتاج الزراعي خلال فترة الخمسينيات بسبب اختفاء طبقة كبار ملاك الأراضي وظهور طبقة متوسطي الملاك من أغنياء الفلاحين، وتحول هؤلاء إلي "الزراعة الرأسمالية". والأخيرة تسخر العامل الأجير من صغار الفلاحين والعمال الزراعيين بلا أرض (أبرزهم عمال التراحيل)، وتتخصص في إنتاج محصولات زراعية غير تلك التقليدية. ثم تأتي الستينيات ليضرب الاقتصاد المصري بواسطة الاقتصاد الدولي المهيمن في ١٩٦٧، وتبرز أزمة البناء الاقتصادي كأزمة مجتمع. وبعد العدوان ظهرت الحاجة إلي إزالة آثار العدوان، وكان ذلك عن طريق تخفيف القيود علي حركة رأس المال الغربي بواسطة سياسة "الانفتاح الاقتصادي".



وقد جسدت تلك السياسة من وجهة نظر المؤلف معني "الليبرالية الاقتصادية المتوحشة" أو "الديمقراطية ذات الأنياب". فقد أدي الانفتاح إلي مهادنة القوي الاستعمارية ومؤاخاتها وبلورة الظاهرة الاستعمارية في المنطقة، فضلا عن "الاتجاه الضبابي المتردد والمتردي" الذي خلفه الانفتاح فيما يخص إدارة الاقتصاد المصري، وتفكيكه للقطاع الاقتصادي المملوك للدولة.



أما أبرز ملامح الاقتصاد المصري فترة السبعينيات: فتح باب هجرة العمالة المصرية علي مصراعيه، "تسليم الرقبة" لشركات توظيف الأموال، تقديم سك الشرعية لرجال الأعمال "المتعثرين" في مصر "المنتعشين" في جنات أسواق الدول الرأسمالية المتقدمة، وأخيرا تمييز رأس المال الأجنبي المستثمر في الداخل بقوانين خاصة استثنائية، حتي أصبح وفق تعبير المؤلف أشبه بـ"الخلاء" داخل "المناطق الحرة".

الرأسمالية الطاغية
التحولات فى قطاع الأعمال والديمقراطية والحياة اليومية
روبرت.ب.رايش




تنبع أهمية هذا الكتاب الذي يتناول طغيان الرأسمالية وتوحشها في عالم السياسة واجتياحها للديمقراطية في الولايات المتحدة والعالم‏من نقطتين اساسيتين, اولاهما صورة الترجمة الخاصة به في بداية العام الحالي الذي شهد ثورة52 يناير وما تضمنته من رفض لاجتياح رأس المال لعالم السياسة والسلطة في مصر وما نجم عنه من تقزيم وتهميش للديمقراطية ودور المواطن في الحياة السياسية.

بل ان عملية الرصد لهذا الاجتياح ومحاولات تجميل دور الرأسمالية من خلال صياغات المسئولية الاجتماعية للشركات, وما ارتبط بها من تساؤلات طرحها الكاتب روبرت ـ ب ـ رايش. في كتابه متتبعا للتحولات التي شهدها قطاع الأعمال والديمقراطية والحياة اليومية. اقرب ما تكون للواقع الذي عايشناه لثلاثة عقود. وما كشفت عنه تطورات مابعد ثورة52 يناير من توحش وليس مجرد طغيان رأس المال علي حساب الديمقراطية.

اما النقطة الثانية: فتببع من شخصية الكاتب ذاته, فهو مفكر اقتصادي ورجل سياسة في آن واحد, حيث عمل روبرت ب ـ رايش في ثلاث حكومات امريكية إبتداء من الرئيس فورد الي كلنتون مرورا بكارتر, وكان لتوليه منصب وزير العمل في حكومة بيل كلينتون, مع خلفيته كمفكر اقتصادي تخصص في مجالات السياسة العامة والسياسة الاجتماعية والاقتصادية في العديد من الجامعات الامريكية وعلي رأسها جامعة هارفارد واثرهما في تصدر كتبه قائمة الكتب الاقتصادية الاكثر مبيعا, ومنها الكتاب الذي نعرضه الرأسمالية الطاغية, كتاب بعد الصدمة ـ الاقتصاد التالي ومستقبل امريكا, فهو ليس بسارد لتطورات الاوضاع ولكنه محلل ومفكر, يخلص الي قناعات وآراء قد تبدو في غير اتجاه الريح علي الساحة الاقتصادية الأمريكية وخاصة في ظل سيطرة من أطلق عليهم اسم المحافظين الراديكاليين. ومن هنا كانت خلافاته الفكرية التي صاغتها في كتاباته مع وزراء المالية الامريكيين, سواء خلال حكم بيل كلينتون وحتي حكم أوباما انطلاقا من قناعته بان المسار الطاغي للرأسمالية ادي الي تقليص دور الطبقة الوسطي. وكانت نتيجته التلقائية ممثلة في التحديات التي واجهها الاقتصاد الأمريكي بعد الازمة المالية الاخيرة, وهي تحديات تواجه أي دولة طالما اطلقت العنان للرأسمالية, وحرصها علي المستثمر والمستهلك الفرد علي حساب المواطن, وهي ما صاغه في كلمات معبرة لقد ازداد التوجه نحو الرأسمالية وأصبحت اكثر تجاوبا مع ما نريده كمشتريين افراد وكمستثمرين, ولكن اصبحت الديمقراطية اقل تجاوبا مع ما ننشده مجتمعين كمواطنين. إذا كان دور النظام الرأسمالي هو توسيع وتكبير الكعكة الاقتصادية, فان تقسيم الشرائح متروك تقريرها للمجتمع وهو الدور الذي نسنده للديمقراطية, حيث ان الاخيرة تعني ماهو اكثر من مجرد انتخابات حرة نزيهة, فهي نظام لانجاز مالا يمكن تحقيقه إلا من خلال تعاون وتكاتف المواطنين مع مواطنين آخريين ـ لتقرير قواعد اللعبة التي تعكس نتائجها الصالح العام.

الراسمالية والديمقراطية.. مأزق التباعد
تلك هي الوقائع التي رصدها الكاتب والمفكر الاقتصادي روبرت ب ـ رايش في كتابه الذي ترجمته علا أحمد إصلاح, ولخصها في تساؤله لماذا اصبحت الرأسمالية منتصرة والديمقراطية ضعيفة الي هذا الحد؟ هل هذان الاتجاهات متصلان ببعضهما؟ وما الذي يمكن القيام به لتقوية الديمقراطية وتدعيمها؟
وقد جاءت محاولة الكاتب الاجابة علي هذا التساؤل والخروج من مأزق التباعد الي حل التواصل بين الجانبين, لتكون بمثابة ضوء كاشف لما شهده العالم علي مدي عدة عقود, إبتداء من الولايات المتحدة ذاتها, من اجتياح الراسمالية للديمقراطية وترجمة استطلاع للرأي العام, اشار فيه نسبة تزيد علي60% من المواطنين الامريكيين, الي اعتقادهم بان الحكومة تدار بواسطة قلة من المصالح الكبري( عام2000) بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز39% في عام(1964).
فالكاتب يري ان الفجوة بين الأفراد كمواطنين وبصفتهم مستهلكين مستثمرين تضيق وتتسع من مكان لآخر في عالم العولمة والانترنت والمدونات, فهناك جماعات وهيئات لحماية المستهلك. وجماعات آخري ضاغطة وفعالة لتسهيل مناخ الاستثمار وتدعمها مؤشرات دولية, ولكن الديمقراطية الحقيقية ـ وليس مجرد الالفاظ المطلقة ـ هي القضية الاساسية للمواطن ابتداء من شرق أوروبا الي امريكا اللاتينية مرورا بآسيا وافريقيا.
إنه يري أيضا أن تلك الأنظمة ديمقراطية بالاسم فقط ويثقل كاهلها نفس المشكلات التي عوقت الديمقراطية الامريكية في السنوات الاخيرة, ولكن بدرجة أكبر فحسب, فهناك الفساد المستوطن والهيمنة السياسية من جانب النخب الصغيرة أو حكم الحزب الواحد, وكل هذه الأوجه لا يستطيع أي منها ان يصمد بفاعلية في وجه الآثار الجانبية السلبية للرأسمالية الطاغية التي أفرزتها سنوات السبعينات, وفرضت حتمية الدراسة التفصيلية للهيكل المتغير للاقتصاد السياسي في الولايات المتحدة باعتبارها المصدر الرئيسي لهذه المتغيرات وادت الي التغيرات المماثلة في بلدان أخري

الطبقة المتوسطة.. رحلة الصعود والانكسار:
فاذا كانت الرأسمالية شرطا اساسيا مسبقا للديمقراطية, طبقا لميتون فريدمان فان امريكا لايعتقد الكاتب ـ انها خير مثال لفكرة ان الرأسمالية والديمقراطية تشيران جنبا الي جنب, لقد اصبحت العلاقة بينهما أكثر توترا. حيث انتصرت رأسمالية السوق الحرة بينما ضعفت الديمقراطية, فلماذا؟
الاجابة عن هذا التساؤل تضمنها الفصول الستة للكتاب والتي من خلالها روبرت. ب. رايسن رصد عملية النمو للحصر الذهبي للرأسمالية الامريكية وتحليل الشوائب التي قللت من بريقه واكتمال صوره في الفصل الأول. ثم توالت التطورات المتلاحقة الناجمة عن الاتجاه المتنامي للرأسمالية الطاغية وما أفرزته من عقلية مزدوجة في التعامل مع مطالب المستهلكين والمستثمرين من جانب وعدم القدره علي تجميع قيم المواطن من جانب آخر وذلك في الفصلين الثاني والثالث. ومع تصاعد تلك التطورات. كانت النتيجة السلبية الحتمية ألا وهي اجتياح الديمقراطية تم تحويل مسار السياسة ذلك في الفصلين الرابع والخامس. أما الفصل السادس فقد انصب علي تحديد كيفية مواجهة المطالب الاجتماعية للرأسمالية الطاغية وفك عقدة الارتباط بين السياسة وجماعات الضغط, أو ما أطلق عليه الكاتب اسم مناوري الأروقة داخل المجالس التشريعية واللجان والادارات والاجهزة الحكومية إضافة إلي اموال الشركات التي تتدفق الي النظام بصورة يومية
ويري الكاتب أنه علي الرغم من نمو العصر الذهبي للرأسمالية الأمريكية والذي شابه العديد من الانتقادات التي أفقدته صفة التميز المطلق وجعلت الشوائب المدنية تقلل من ممثلة في حقوق المرأة والاقليات ونضالهم من اجل المساواة. بالاضافة الي تهديد الحريات المدنية من جانب حملات السيناتور جون مكارثي الا أن الرأسمالية الديمقراطية التي سادت علي مدي الفترة من5491 ـ5791, تحت التجربة الامريكية حظيت بالاعجاب والاستحسان علي نطاق واسع. فقد شهدت هذه الفترة مجموعة من المفاوضات المتواصلة بن اللاعبين الرئيسيين بصورة مباشرة مثل منشآت الأعمال الكبيرة والتنظيمات العمالية الكبيرة واحيانا أخري بصورة غير مباشرة ضمن الوكلات التنظيمية والمجالس التشريعية وكانت المحصلة النهائية ظهور طبقة متوسطة كبيرة ومتنامية عبر الولايات المتحدة ساهمت في تحقيق الاستقرار للنظام السياسي وكانت نتيجة لأداء أنظمة أقتصادية كبيرة الحجم ذات أنتاجية وربحية مرتفعة, واستقرار في الوظائف وتوسع في توزيع الأرباح, ومن ثم كانت الدائرة كاملة بين الأداء الرأسمالي والممارسة الديمقراطية.

أما الرأسمالية الطاغية منذ بدأ الطريق اليها عبر التكنولوجيات التي أفرزتها حيث حطمت نظام الانتاج الكبير القديم وزادت من المنافسة بصورة حادة في اطار من العولمة في الاستثمار والتنافس علي تجميع القوة الشرائية للمستهلك, وذلك علي حساب العمالة والمرتبات والاجور.
وكانت النتيجة الطبيعية تعاظم التكتلات التي تقوم بتجميع مطالب المستهلكين والمستثمرين بينما تراجعت المؤسسات التي دأبت علي تجميع قيم المواطن في ظل المفاوضات بين الاحتكارات الكبيرة والنقابات العمالية التي يغطي نشاطها صناعات بأكملها في الاقتصاد السياسي الاوسع.

مناورات الاروقة في عالم السياسة:
ثم كان اجتياح الديمقراطية من خلال تغلغل المال في عالم السياسة وكيف أن المواطن اصبح بين شقي الرحي. مابين المؤسسات الكبري التي حجبت وهمشت اصوات المواطنين لصالح المستهلكين والمستثمرين وكذلك دور هذه المؤسسات في تصعيد المنافسة علي تحقيق نتائج سياسية تمنحها ميزة عن منافسيها من خلال مناورات الأروقة والتي تعادل جماعات الضغط داخل المجالس التشريعية والاجهزة الحكومية بالاضافة الي أموال الشركات التي تتدفق لتمويل الانتخابات وإذا كان الكاتب يرصد ويحلل الوضع في العاصمة الامريكية واشنطن فانه لايبدو, بمعزل أو منفصل عما يحدث في العديد من العواصم الاخري فهناك حرية أمام المستهلك في اتخاذ قرار الشراء من عدمه, او التحول من منتج لآخر. وكذلك بالنسبة للمستثمر الفرد حامل الاسهم والصكوك. فهو يملك حرية البيع والشراء. أما بالنسبة لأصوات المواطنين فيكاد السياسيون لايسمعونهم بسبب تنافر نغماتهم, بل أن هذا المواطن في طريقه لفقد الثقة في ان ما يجب أن نقوله كمواطنين ذو أهمية ـ طبقا لرؤية روبرت رايش وذلك نتيجة تدفق الرأسمالية الي الحقل السياسي واحتياجها للديمقراطية في الولايات المتحدة ومنها الي اعديد من دول العالم. لقد اصبح صوت ضجيج الشركات الكبري ورأس المال اعلي من صوت المواطن تحول دون سماعه. فهناك حلقة مفرغة, تتمثل في ان المسئولين المنتخبين يدينون بالفضل للشركات الكبري التي تكدس الأموال لصالح حملاتهم الانتخابية, وعندما يتربع هؤلاء علي مقاعد السلطة ايا كانت نوعيتها, يقومون بنهب المزيد من المساهمات المالية من هذه الشركات عبر وسطائهم( مناوري الأروقة) بدافع الخوف من ان يحصل المنافسون في دوائرهم علي الاموال بدلا منهم, ومقابل ذلك تصور التشريعات وتتصاعد حمي الدعوات القضائية من جانب الشركات التي اصبحت تعامل كبشر, بينما المواطن البشر لم يجد سوي المدونات للتنفيس عن الاحباطات والتي تفتقر الي صلة مباشرة مع صانع القرار!!!
ويؤكد الكاتب, أن المؤسسات الاقتصادية الحالية اقل قوة عما كانت عليه منذ ثلاثة عقود مضت, لكنها اصبحت تتنافس بصورة اشد شراسة واقوي عما مضي نظرا لتزايد اعدادها وبالتالي تناقص قواتها السوقية.

وعلي النقيض من الأفكار السائدة التي تربط بين الرأسمالية الطاغية وكل من رونالد ريجان ومارجريت تاتشر. او القادة المحافظين. يؤكد الكاتب ان الادارة الديمقراطية للرئيس بيل كلينتون. شهدت الطفرة الحادة في عدد مناوري الاروقة الممثلين للشركات الكبري في العاصمة الامريكية, كما ان التغيرات الاقتصادية فرضت بدايتها قبل وصول ريجان للحكم. وحتي بالنسبة للنظريات التي تشير الي الليبرالية الجديدة او الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. او المذهب المحافظ الجديد او الاجماع الواشنطوني واثرها في طغيان الراسمالية الامريكية يري الكاتب ان هذه الافكار موجودة منذ تنبأ بها آدم سميث في القرن الثامن عشر, ولم تحدث تحولا بل أضفت عليه صبغة شرعية علي الاكثر. حيث ركزت علي الاسوا اكثر من الاعتماد علي الحكومة واهتمت بالكفاءة اكثر من العدالة.

وإذا كان الوضع كذلك. فكيف يكون المخرج؟
الاجابة من وجهة نظر روبرت. ب. رايش تتمثل في وضع قواعد جديدة للعبة, اكثر عدالة ونزاهة تعكس قيم المواطن وايضا قيمته كمستهلك ومستثمر, وحيث ان الرأسمالية الديمقراطية الامريكية التي سادت الخمسينات والستينات لن تعود, فانه يمكن تشكيل المستقبل بطريقة تخدم اهداف ومصالح المواطنين ـ إن تفهم الحد الفاصل المناسب بين الرأسمالية والديمقراطية, وبين اللعبة الاقتصادية وكيف يتم وضع قواعدها لكي يتسني الدفاع عنها بصورة افضل. فالتحدي الاساسي الذي يواجهنا كمواطنين. من وجهة نظر الكاتب: هو منع الشركات من ان تضع هي القواعد والحيلولة دون امتداد وتغلغل الرأسمالية الطاغية الي داخل الديمقراطية, وهي أجندة التغيير البناءة في وجه الآثار السلبية للرأسمالية الطاغية.

مابعد الصدمة.. الاقتصاد التالي ومستقبل أمريكا
إمتدادا لوجهة النظر والرؤية التحليلية الخاصة بروبرت ب. رايش جاء كتابه في تحليل الازمة المالية الاخيرة.. والذي يعد كتابه عن الرأسمالية الطاغية, بمثابة الجذور الاساسية به. فقد ركز علي اختلافه مع وجهة نظر وزير الخزانة الامريكي تيموثي جينتر في ان الازمة المالية ناجمة عن توسع الامريكيون في الانفاق بينما تتضاءل قدرتهم علي الادخار: حيث يري روبرت رايش ان السبب الاساس هو ركود الطبقة المتوسطة من حيث مستويات الدخول وانفجار فجوة عدم المساواة في المجتمع الامريكي, واوضح ان المشكلة الرئيسية لم تكن في أداء شارع المال وول ستريت ولكن في تركز الثروة في ايدي حفنة قليلة من الاغنياء حيث يستحوذ1% من اغني اغنياء الولايات المتحدة علي نسبة52% من اجمالي الدخل القومي, بينما الطبقة المتوسطة تواجه بارتفاع تكاليف المعيشة مع ثبات اجورها. مما ادي الي افراطها في المديونية.

وهذا يقتضي ضرورة التزام الدولة الامريكية بالعدالة والمساواة في الفرص وان تتضمن خطة المستقبل للعقود القادمة, مزيدا من الممارسة الانسانية في أداء النظام الاقتصادي الامريكي. فتنافسية الدولة. تعتمد علي التعليم ومهارات أفراد شعبها والبنية الاساسية التي تربطهم ببعض.

وهو ذات الخط الذي انتهجه الكاتب في سلسلة كتبه, وركز فيه علي ان الأفراد هم رأس المال البشري للدولة, ويشكلون المصدر الذي يعتمد عليه في قياس مستوي المعيشة المستقبلي لها وليس ربحية الشركات ومراكزها الرئيسية من خلال أرقام رؤوس اموالها, ومن ثم فإن الاستثمار العام هو حجر الاساس في السياسة الاقتصادية