في العقد التاسع من عمره وما
زال مصرا على إكمال مهمته
جون بوغل (نيويورك تايمز)
نيويورك: جيف سومر*
لقد أصبحت شركة «فانغارد»، وهي
شركة إدارة صناديق الاستثمار الخجولة التي أسسها جون بوغل، صرحا ضخما، وصارت
صناديق المؤشرات التابعة لها - التي كانت في يوم من الأيام محل سخرية بسبب عدم
محاولتها حتى أن تتفوق على السوق - المعيار الذي يسترشد به الآن في هذا المجال.وبعد
6 نوبات قلبية على الأقل وعملية زراعة قلب، استطاع بوغل أن يشهد هذا الانتصار،
فقال بصوت منتشٍ: «الأمر كله أشبه بالمعجزة. من الجميل حقا أن أتمكن من رؤية هذا
وهو يحدث في حياتي».
وبمثل هذا التاريخ المرضي، فإن أي
رجل آخر في الثالثة والثمانين من عمره كان من الممكن أن يجلس ببساطة للاستمتاع
بنجاحه، ولكن ليس جون بوغل، فما زال عليه أن يكمل مهمته، بنفس الصراحة وتقريبا
بنفس القوة التي كان عليها طوال عمره - وهو يقول إن هذا بفضل قلب رجل أصغر منه
سنا. فهو لم ينته بعد، ويؤكد: «من الضروري أن يستيقظ الناس». لماذا؟ لأن هذا هو
أسوأ توقيت رآه بالنسبة للمستثمرين على الإطلاق - وبعد ما يزيد على 60 عاما في
عالم المال والأعمال، فإن هذا يعني الكثير.
ولنبدأ بالاقتصاد، الذي يعد المصدر
الأساسي لعوائد البورصة على المدى البعيد، فيقول بوغل: «هناك غيوم تحوم حول
الاقتصاد، والنظام المالي تأذى بشدة. صحيح أن خطر وقوع حدث من أحداث البجعة
السوداء - بأن يكون شيء ما مستبعدا لكنه ينذر بشؤم - صغير، لكنه حقيقي». ويضيف أنه
حتى مع ذلك، فإن المستثمرين على المدى الطويل يجب أن يحتفظوا بالأسهم، لأنه على
الرغم من المخاطر التي قد تكتنف السوق، فما زال من المرجح أن يحقق هذا عوائد أفضل
من البدائل.
ويؤكد بوغل: «المستثمرون الذين
يتمتعون بالحكمة لن يحاولوا أن يكونوا أذكى من السوق. سوف يشترون صناديق المؤشرات
على المدى الطويل، وسوف يحرصون على التنويع. ولكن التنويع في ماذا؟ إنهم بحاجة إلى
بدائل، سندات في الغالب. الشيء المخيف جدا الآن هو أن بدائل الأسهم فقيرة للغاية».
ويتابع قائلا إنه في الأزمات
المالية التي وقعت خلال الأعوام الكثيرة الماضية، اندفع المستثمرون إلى السندات
الحكومية التي تبدو آمنة، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض العوائد، كما دأب
مجلس الاحتياطي الفيدرالي والمصارف المركزية الأخرى أيضا على خفض أسعار الفائدة.
غير أن انخفاض العوائد اليوم في
رأيه يعني انخفاض العوائد لاحقا، و«النظرة المستقبلية للسندات خلال العقد المقبل
فظيعة حقا». ويرى بوغل أنه في ظل هذه النظرة المستقبلية القاتمة، لا بد للناس أن
«يثابروا حتى النهاية» إذا أرادوا أن يكون لديهم أمل في بيع منازلهم أو إيصال
أبنائهم إلى الجامعة أو الاستمتاع بتقاعد مريح.
وما زال بوغل يدعو إلى الاستثمار
طويل الأجل منخفض التكلفة، فيوضح: «أفكاري بسيطة للغاية. عند الاستثمار، فإنك تحصل
على ما لا تدفع ثمنه. إن التكاليف أمر مهم، وبالتالي فإن المستثمرين الأذكياء سوف
يستعينون بصناديق المؤشرات منخفضة التكلفة لبناء حافظة متنوعة من الأسهم والسندات،
وسوف يثابرون حتى النهاية. كما أنهم لن يكونوا حمقى بما يكفي ليعتقدوا أنه يمكنهم
التذاكي على السوق طوال الوقت».
ومع ذلك، فنظرا لأن السوق
والاقتصاد يمران بأزمة خانقة، فإن هذا هو وقت التحرك على جبهات كثيرة، فيقول بوغل:
«ليس أمامنا حقا أي خيار آخر. علينا أن نصلح هذا النظام. كلنا، كأفراد، لا بد أن
نفعلها».
وقد كانت هذه هي الرسالة التي
قدمها في أحدث مؤلفاته، وهو الكتاب الحادي عشر له بعنوان «صدام الثقافات:
الاستثمار في مقابل المضاربة» (The
Clash of the Cultures: Investment vs. Speculation)، وهو يتضمن نقدا شديدا لقطاع
الخدمات المالية والنصائح المحدثة التي تقدم للمستثمرين، حيث يقول فيه: «لقد
انتشرت ثقافة تقوم على المضاربة على المدى القصير، لتحل محل ثقافة الاستثمار على
المدى الطويل التي كانت سائدة في السابق في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية».
ويذهب الكثير جدا من المال إلى
المضاربة قصيرة الأجل، بحثا عن ربح سريع دون اكتراث يذكر بالمستقبل، وقد تضرر
النظام المالي من سيل من الابتكارات المزعومة التي تروج فقط للتداول السريع جدا
وتوقيت السوق والمناورات قصيرة النظر من جانب الشركات، بينما يحصل المستثمرون
الأفراد على أقل مما يستحقون.
وتتدفق أموال الشركات على الحملات
السياسية، كما تعرض نظام معاشات التقاعد الأميركي لحادث قطار، وصارت قيم أميركا
الأساسية مهددة. ويظل بوغل رأسماليا راسخا، لكنه يقول إن النظام «فقد توازنه»، مما
يهدد المجتمع بأكمله. وهو يقتبس مقولة وينستون تشرشل التي قال فيها: «يمكنكم دوما
الاعتماد على الأميركيين في فعل الشيء الصائب - بعد أن جربوا كل شيء آخر»، مؤكدا
أن الآن هو الوقت المناسب لتجربة شيء آخر.
وهو من أنصار فرض ضرائب للحد من
المضاربة قصيرة الأجل، كما يريد وضع قيود على نشاط الاقتراض، وتوفير الشفافية في
المشتقات المالية، وتطبيق عقوبات أكثر صرامة على الجرائم المالية، وربما يكون
الأكثر إلحاحا هو وضع معيار موحد للثقة بالنسبة لجميع مديري الأموال: «إن وضع
معيار للثقة يعني في الأساس أن توضع مصالح العميل أولا، دون أي أعذار». وهؤلاء
العملاء - أي الناس العاديين الذين يخاطبهم دوما - بحاجة إلى حماية أنفسهم من
الخطر، فيستطرد قائلا: «في عالم مثالي، كذلك الذي رسمه آدم سميث، سوف يميز الأفراد
ما يحتاجون إلى فعله لمصلحتهم الذاتية، وسوف يجعلون التغييرات تحدث ويعتنون
بأنفسهم».
ويختلف بوغل أحيانا مع إدارة شركة
«فانغارد» الحالية، لكنه يظل فخورا بالشركة التي أسسها، فقد اكتسبت صناديق
المؤشرات شعبية أكبر من أي وقت مضى، وبدأ سيل من الأموال يتدفق على الشركة. وبفضل
صناديق المؤشرات المتنوعة التي تمتلكها في المقام الأول، حققت شركة «فانغارد»،
التي يقع مقرها بالقرب من منطقة فالي فورج بولاية بنسلفانيا، صافيا نقديا بلغ 87,8
مليار دولار منذ بداية هذا العام حتى نهاية يونيو (حزيران) الماضي، هذا بخلاف
صناديق أسواق المال، وهذا الرقم يعادل 40 في المائة تقريبا من التدفقات النقدية
لقطاع صناديق الاستثمار برمته.
ويقول بارتون مالكييل، الخبير
الاقتصادي في «جامعة برينستون» ومؤلف كتاب «جولة عشوائية عبر وول ستريت» (A Random Walk Down Wall Street): «صناديق المؤشرات اكتسبت رواجا
كبيرا الآن إلى درجة أنه أصبح من السهل نسيان كم كان جاك بوغل شجاعا وعنيدا في
إنشائها. لقد أطلق عليها حماقة بوغل لأن كل ما كانت تقوم به هو مضاعفة عوائد
السوق. لكن هذا بالطبع يعتبر شيئا كبيرا. ففي العالم الأكاديمي، كان كثيرون يرون
الحكمة من هذا، لكن جاك هو الشخص الذي جعل هذا يحدث فعليا».
وقد حاول بوغل أيضا أن يضمن أن تظل
صناديق «فانغارد» دائما رخيصة في شرائها والاحتفاظ بها، وعلى الرغم من أن شركة
«فانغارد» ولدت على يديه، فهو لم يحز مطلقا أي حصة ملكية فيها بخلاف الأسهم التي
يمتلكها في صناديق الاستثمار التابعة لها، فمساهمو صناديق «فانغارد» يملكون المكان
بشكل جماعي، لأنه خططه على هذا النحو.
ويقول بوغل: «الاستراتيجية تتبع
الهيكل»، مبينا أنه في ظل عدم وجود أي شركة أم أو ملاك من القطاع الخاص يمتصون
الأرباح، فإن شركة «فانغارد» يمكنها أن تبقي التكاليف أقل من أي أحد آخر، وقد كان
ذلك هو الهدف دائما. ويمضي قائلا: «الطريقة الوحيدة كي يستطيع أي أحد أن يتنافس
معنا حقا فيما يتعلق بالتكاليف هو أن يتبنى هيكل ملكية مشتركة. لقد ظللت أنتظر كل
هذه السنوات كي يفعلها أحدهم، لكن أحدا لم يفعل».
وفي السنوات التي شهدت أوج أرباحه
في شركة «فانغارد»، كان يداوم على التبرع بنصف راتبه للأعمال الخيرية، ومن بينها
اثنتان من المؤسسات التعليمية التي درس بها، هما مدرسة «بلير أكاديمي» (وهي مدرسة
إعدادية في منطقة بلير تاون بولاية نيو جيرسي) و«جامعة برينستون»، وكلتاهما كان قد
حصل على منحة للدراسة فيها، إلى جانب عمله في وظائف بدوام جزئي كي يساعد على توفير
مصاريف دراسته. وفي «جامعة برينستون»، وضع في أحد الأبحاث التي قام بها في الصف
النهائي الخطوط العريضة لشركة خدمة المساهمين منخفضة التكاليف التي أصبحت فيما بعد
شركة «فانغارد». وما زال بوغل يقدم تبرعات للكثير من القضايا، وهو يعلق قائلا:
«أسفي الوحيد بخصوص المال هو أنني لا أملك المزيد منه كي أتبرع به».
وعلى الرغم من أنه لا يتولى أي دور
تشغيلي في شركة «فانغارد»، فهو لم يغادرها بصورة تامة، حيث يعمل داخل مقر الشركة
رئيسا لـ«مركز بوغل لأبحاث أسواق المال»، وهو معهد بحثي صغير يتيح له منبرا ممتازا
يحاول استخدامه بالطريقة الفعالة التي كان يستخدمه بها مثله الأعلى تيودور روزفلت.
ويتمتم قائلا: «لم يعد هناك الكثير منا نحن جمهوريي روزفلت». وربما يكون بوغل
جمهوريا، إلا أنه أعطى صوته لبيل كلينتون وباراك أوباما، وينوي التصويت لصالح
أوباما مرة أخرى. وهو يقول إن التنظيم الحكومي للقطاع المالي غير كافٍ، كما أنه من
أنصار «قاعدة فولكر»، التي سميت على اسم صديقه باول فولكر، الرئيس السابق لمجلس
الاحتياطي الفيدرالي، الذي يرى ضرورة أن لا تقوم المصارف الخاضعة للضوابط
التنظيمية بمراهنات تنطوي على مخاطرة بأموالها الخاصة.
وقد انتقل بوغل إلى هذا المعهد بعد
أن غادر مجلس إدارة الشركة عام 1999 وسط صراع مع جون جاك برينان، الرجل الثاني
الذي اختاره خلفا له. وكانت صحة بوغل قد أصبحت غير مستقرة في التسعينيات من القرن
العشرين، وفي عام 1996، عندما تنحى عن منصب الرئيس تنفيذي وأسنده إلى برينان، كان
قد تعرض بالفعل لست نوبات قلبية على الأقل واشتد عليه المرض، وذلك بحسب اثنين من
المسؤولين في شركة «فانغارد» وقتها، حيث ذكر أحدهما: «في تلك المرحلة، لم يكن جاك
بوغل قادرا على المشي ببطء عبر الغرفة دون أن تنقطع أنفاسه. كان قلب جاك على وشك
التوقف عن العمل، فإما أن يجري عملية زراعة قلب أو أن يقول وداعا لهذا العالم».
وأجريت له جراحة زراعة القلب في أوائل عام 1996 بنجاح باهر، ويضيف المسؤول:
«بدنيا، لقد ولد جاك من جديد. كان هذا رائعا، لكنه جعل الأمور معقدة للغاية في
شركة فانغارد».
كان بوغل قد قام بتعيين برينان في
الشركة عام 1982، وعملا معا بصورة ودية لما يزيد على 10 سنوات. وذكر مسؤول قديم في
شركة «فانغارد» رفض ذكر اسمه لأن هذه المسألة ما زالت حساسة داخل الشركة: «جاك
وجاك نوعان مختلفان تماما. جاك برينان هو العقل المدبر، رجل العمليات الذي لا
يستهويه الحديث مع الصحافيين، وجاك بوغل هو الوجه الخارجي، مسؤول التسويق الأمثل».
ولفترة طويلة، بدا أن هذا التناغم مناسب، لكن الأمور تغيرت بعد عودة بوغل بقلب
جديد وقوة متجددة، فعقب توليه منصب «رئيس أول مجلس الإدارة»، وجد بوغل أنه غير
متفق مع بعض قرارات برينان، وذكر هذا صراحة، حيث انتقد اهتمام برينان بإنشاء
صناديق أسهم قطاعية ذات نظرة ضيقة، كما أقلق بوغل أن شركة «فانغارد» بدأت في
التركيز على بيع الصناديق عن طريق مستشاري استثمار، حيث كانت المبيعات المباشرة
إلى المستثمرين أحد الابتكارات الرئيسية منخفضة التكلفة في الأيام الأولى للشركة.
وفي عام 1999، مع تصاعد حدة
التوترات بينهما، طلب من بوغل الرحيل عن مجلس الإدارة بعد بلوغه سن التقاعد
الإلزامي وهو 70 عاما، ويقول الرجل: «كنت أظن أنه سيكون هناك استثناء لمؤسس
الشركة». ونشرت تفاصيل النزاع على الملأ، وعرض مجلس الإدارة على بوغل تمديد
ولايته، لكنه انتقل إلى المعهد البحثي الجديد، الذي صار مستقرا له منذ ذلك الحين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق