الأحد، 11 أكتوبر 2009

بعد قفزة غير مسبوقة الذهب.. ملاذ آمن أم مخاطرة شائكة؟

11/10/2009


إيضاح بياني لتصاعد سعر الذهب من 2002 إلى 2009
"الملاذ الآمن".. هكذا يبدو الذهب في نظر كثير من المستثمرين ورجال الأعمال والمواطنين الخائفين من المستقبل، فهو الثروة المضمونة في ظل حالة عدم اليقين التي يمر بها الاقتصاد العالمي وعدم الاستقرار في أسواق الصرف.
هذا الملاذ الآمن سجل مستوى قياسيا في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009 عندما بلغ سعر الأونصة (الأوقية) 1100 دولار، وذلك في أعقاب بيان مجلس الذهب العالمي بانضمام سريلانكا إلى الهند في شراء المعدن النفيس وسط انخفاض سعر صرف الدولار.
وكانت أسعار الذهب قد ارتفعت بأكثر من 30 دولار في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009، وهو أعلى معدل ارتفاع خلال جلسة واحدة، بعد إعلان صندوق النقد الدولي في أكتوبر/ تشرين الأول 2009 عن بيعه 200 طن من احتياطيه من الذهب إلى البنك المركزي الهندي، في صفقة قدرت قيمتها بنحو 6.7 مليار دولار.
ووفقا لما ذكر موقع "بلومبرج" الأمريكي، فقد سجلت أسعار الذهب ارتفاعا نسبته 24% خلال عام 2009 في بورصة لندن، بينما سجل الدولار تراجعا أمام اليورو، و5 عملات أخرى، بحوالي 6.4%، وذلك من أول يناير/ كانون الثاني 2009 وحتى أول نوفمبر/ تشرين الثاني 2009.

قفزات متوقعة

توقع بارتفاع سعر الذهب إلى 2000 دولار للأوقية بنهاية 2010
ورجحت تقارير اقتصادية حديثة أن تشهد أسعار الذهب مزيدا من الارتفاع، فربما تصل إلى 1500 دولار للأونصة (الأوقية)، بسبب اتجاه العديد من البنوك المركزية إلى تخفيض أسعار الفائدة لديها، بالإضافة إلى تزايد الطلب على هذا المعدن النفيس.
فقد ذكر تقرير صادر عن بنك "سيتي جروب" أنه من المرجح أن يتجاوز سعر الذهب الـ2000 دولار نهاية العام 2010، وذلك إثر قيام المصارف المركزية حول العالم بإغراق الأسواق بالسيولة النقدية، مشيرا إلى أن هذه المغامرات من قبل المصارف المركزية ستنتهي لا محالة إما بصعود قوي للتضخم أو كساد اقتصادي كبير واضطرابات مدنية، وفي الحالتين سيكون الذهب الملاذ الآمن.
ونبه التقرير إلى الأنباء الواردة من الصين تشير إلى أنها تفكر جديا في رفع احتياطياتها من المعدن الأصفر إلى 4000 طن بدلا من 600 طن حاليا، وذلك بغرض تنويع احتياطياتها بدلا من تركيزها على الأوراق المالية والسندات.

هبوطه وصعوده

مؤتمر لمجلس الذهب العالمي
وفيما يتعلق بتقلبات أسعار الذهب عبر أكثر من نصف قرن، فقد ظلت الأسعار شبه مستقرة منذ الأربعينيات وحتى السبعينيات من القرن الـ20، لكنها تحركت بقوة خلال النصف الثاني من السبعينيات حتى بلغت أقصاها في 21يناير/ كانون الثاني 1980، مع دخول الدبابات السوفيتية أفغانستان حين سعى المستثمرون الخائفون إلى الملجأ الآمن المطلق - أي الذهب - رافعين سعر أوقيته إلى معدل قياسي بلغ 850 دولارا. وكانت أسعار النفط في الوقت نفسه ترتفع بقوة نتيجة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، بينما كان سعر الدولار يهبط بشدة، وسط مخاوف من ركود اقتصادي أمريكي.
وبالمثل تسبب عدم الاستقرار في جنوب آسيا - منذ اغتيال رئيسة وزراء باكستان السابقة بيناظير بوتو في ديسمبر/ كانون الأول 2007 - في ارتفاع سعر الذهب.
وعلى مدى السنوات الأخيرة، تعرض سعر الذهب لتقلبات عديدة، لكن الاتجاه العام كان نحو الهبوط خلال تسعينيات القرن الـ20، فقد بلغ معدل أسعار الذهب عام 1991 حوالي 362.1 دولار للأونصة (الأوقية) ثم تراجع إلى 343.8 دولار للأونصة (الأوقية) عام 1992 لكنه ما لبث أن سجل صعودا في السنوات الـ4 اللاحقة ليصبح 387.8 دولار عام 1996.
أما عام 1997، فقد شهد هبوط سعر أونصة الذهب (الأوقية) عند مستوى 289.9 دولار أي دون 300 دولار للمرة الأولى منذ مارس/ آذار 1985، كما سجل معدل سعر أونصة الذهب (الأوقية) تراجعا آخر في عام 1999 ليبلغ 279.8 دولار ثم 279.1 دولار في عام 2000، وقدرت نسبة الانخفاض في سعر الذهب في الفترة بين 1991 و2000 بحوالي 23%.
احتياطي الذهب للبيع
وقد حرصت البنوك المركزية في كل أنحاء العالم منذ سنوات طويلة على الاحتفاظ بالذهب كجزء من احتياطياتها، لكن هذا التوجه لحقه بعض التعديل في التسعينيات إذ بلغ حجم احتياطيات الذهب الموجودة بهذه البنوك والمؤسسات النقدية الأخرى في العالم حوالي 950 مليون أونصة (أوقية) نهاية عام 2000، ويعد هذا أقل بكثير من مستويات احتياطي الذهب التي سادت خلال السبعينيات.
وبالتالى أدى التراجع في أسعار الذهب خلال فترة التسعينيات إلى إلحاق خسائر كبيرة في قيمة احتياطي الذهب الذي تحتفظ به البنوك المركزية في أرجاء العالم، حيث تراجعت قيمة هذا الاحتياطي العالمي إلى 265.2 مليار دولار نهاية عام 2000 مقارنة بحوالي 340.1 مليار في آخر عام 1991، مسجلا هبوطا نسبته 22%.
ثم اتجه منحنى أسعار الذهب للارتفاع المستمر منذ 2002 وحتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2009، ليرتفع من 310 دولارات في 2002 إلى 363.5 دولار في 2003، ثم إلى 409 دولارات في 2004 ويواصل الصعود إلى 445 دولارا بعام 2005، ثم قفز إلى 604 دولارات عام 2006، وواصل قفزاته إلى 695 دولارا عام 2007، ثم ارتفع إلى 872 دولارا في عام 2008.
وقد صرح جيمس برتون الرئيس التنفيذي لمجلس الذهب العالمي بأن ارتفاع سعر الذهب وتقلبه والتضخم الذي شهدته اقتصاديات كثيرة في العالم والضغوط الاقتصادية الكبيرة على المستهلك من عوامل انخفاض حجم استهلاك العالم من الذهب بالطن في الربع الثاني من عام 2008 مثلما حدث في أسواق بريطانيا والولايات المتحدة وبعض دول الخليج.
و مع تقلص العرض بمعدل نمو سنوي مركب بلغت نسبته 2.4%، لا يزال الطلب على الذهب في الشرق الأوسط قويا بإجمالي 383 طنا في نهاية عام 2008 مقارنة بنحو 348 طنا في عام 2007، ولكن الجدير بالذكر أن حجم استهلاك المجوهرات الذهبية بالطن في الشرق الأوسط - والذي يمثل 90% من حجم تجارة الذهب بالمنطقة - قد انخفض بنسبة 12% في الربع الثاني من 2008، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2007.
ويشير التوزيع النسبى للطلب على الذهب خلال عام 2008 إلى استحواذ الاستهلاك للمجوهرات لنسبة 57.5%، بينما كان نصيب الطلب الاستثماري 31% في شكل سبائك ذهبية وعملات رسمية وميداليات وصناديق الاستثمار المتخصصة بالذهب، فى حين بلغ نصيب الطلب الصناعى 11.5% والذي يتجه للأسنان الصناعية والالكترونيات وغيرها من الصناعات.
وخلال عام 2009، واصل الذهب رحلة صعوده إلى 908 دولارات خلال الربع الأول من العام، ثم ارتفع إلى 922 دولارا بالربع الثاني من العام حتى تخطى 1070 دولارا فى الأسبوع الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2009، ثم قفز في نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 1100 دولار.
وقد كانت احتياطيات الذهب تستخدم عبر التاريخ للوقاية من آثار التضخم ودعم أسعار صرف العملات المحلية. ومما يزيد من جاذبية الذهب كاحتياطي كونه مقبولا على المستوى العالمي كوسيلة للدفع، إضافة إلى أنه قابل للتحويل إلى سيولة نقدية، بل أنه ضمان في حال حدوث الحروب أو فرض عزلة دولية على البلاد، خاصة إذا كان هذا مصحوبا بمحاولة لتجميد الاحتياطيات الأجنبية التي تمتلكها الدولة في البنوك العالمية.
ومع هذا لم تعد الأسباب التي تشجع على الاحتفاظ بالذهب كأصل احتياطي مقنعة في السنوات الأخيرة، حيث أصبح من الصعب استخدام الذهب كوسيلة للدفع إذ لم يعد مقبولا من الجميع، إضافة إلى أن القيام بتجميد الاحتياطيات الأجنبية في الدول التي تعاني من الحروب أو من عزلة دولية مفروضة عليها لا يستثني الذهب، الأمر الذي نبه كثير من البنوك المركزية لأهمية البيع التدريجي لمعظم ما تمتلكه من احتياطي الذهب والتحول إلى الأصول الأخرى التي تدر دخلا.
وفي المنطقة العربية، هبطت قيمة احتياطي الذهب الذي تحتفظ به البنوك المركزية والمؤسسات النقدية الأخرى من 8.16 مليار دولار إلى 5.94 مليار دولار في التسعينيات، مما يمثل خسارة قيمتها نحو 2.2 مليار دولار، مما يعزز وجهة النظر التي ترى أن الاحتفاظ باحتياطيات على شكل ذهب خطوة غير اقتصادية مقارنة مع الاحتفاظ بعملات أجنبية أوأي أصول أخرى.
وقد تغير هذا الأمر خلال السنوات الأخيرة مع التطور الذي حدث في سوق التمويل التأجيري للذهب، الذي مكن البنوك المركزية من الحصول على عائد صغير يقدر بحوالي 2% سنويا (وفقا لأجل الاستحقاق) على الذهب الذي ترغب في تقديمه سلفة أو قرضا للسوق، لكن هذا الربح لا يزال دون المستوى الذي توفره الأصول الأخرى.

سر غلائه

اعتماد الذهب كمستودع للقيمة والثروة مع تقلبات أسعار الصرف
وحول مستقبل أسعار الذهب، يختلف المحللون حول ما إذا كانت أسعاره ستعبر حاجز الألف دولار للأونصة (الأوقية) أو ستظل ثابتة التوجه بمعدلات متصاعدة في الأجل المتوسط؟
وتباينت آراء الخبراء في تفسير أسباب الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار الذهب منذ 2002، حيث اتفق معظم خبراء الاقتصاد والمعنيين بتجارة الذهب على أن السبب الرئيسي يرجع إلى انخفاض ثقة المتعاملين بالعملات الأساسية كالدولار واليورو في السوق العالمية، والتي ترتبط قيمتها بقوة اقتصاديات الرأسمالية مما شجع التعامل بالمعادن النفيسة كالذهب وغيره، بينما عزا البعض غلاء الذهب إلى تطورات الأحداث السياسية والاقتصادية بصورة مفاجئة ومتلاحقة في العالم، وتأثيرها على حركة الأسعار في سوق المال وكذلك سعر برميل النفط.
وتشير أحداث الواقع الحالي إلى أن ارتفاع الذهب لعب دورا في التأثير على سعر برميل النفط، حيث دفع الدول المنتجة باتجاه التقليل من الإنتاج، كما أنه وجه الدول المستوردة لتخزين الذهب الخام تحسبا لمخاطر سياسية وأمنية كاليابان وروسيا.
وعبر التاريخ هناك علاقة طردية بين أسعار الذهب والنفط أي يتزامن ارتفاعها وانخفاضها مع بعضها، حيث كان يتم شراء النفط مقابل الذهب - وحتى الآن - هناك نسبة كبيرة من عائدات النفط تستثمر في الذهب. ومع ارتفاع أسعار النفط، فإن كثيراً من الإيرادات المتزايدة يتم استثمارها في الذهب أو غيره من الأصول ، كما أن ارتفاع أسعار النفط يزيد الضغط على التضخم وهو ما يعزز اللجوء للذهب كوسيلة لتلافي مخاطرالتضخم.
معدل الذهب إلى النفط
يقصد بنسبة الذهب للنفط عدد براميل النفط الذي يمكن شراؤه بأونصة (أوقية) من الذهب، وهي من أكثر المؤشرات المستخدمة بين المستثمرين من مختلف أنحاء العالم لبيع وشراء الذهب، فعندما ترتفع نسبة الذهب للنفط إلى أقل من 10 براميل/ للأوقية، يعد هذا فرصة للشراء في حين ترتفع فرصة البيع عندما تنخفض نسبة الذهب للنفط إلى أكثر من 20 برميلا/ للأوقية. ويتعزز ذلك الارتفاع كلما ازدادت وتيرة الأزمات التي تجتاح العالم بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، ففي عام 2001 ارتفعت نسبة الذهب للنفط إلى 15 ضعفا في ظل أحداث 11 سبتمبر/ أيلول.
ومن الأسباب الأخرى لارتفاع سعر الذهب، تزايد العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة الأميركية، علاوة على ندرة عنصر الذهب في العالم وزيادة الطلب عليه مما رفع أسعاره، فعلى سبيل المثال الانخفاض المتوقع في انتاج السعودية من الذهب خلال العامين 2010 و2011 بمقدار الربع في ظل نضوب المنجمين الرئيسيين لها سيكون له أثر مباشر في تراجع إنتاج السعودية من الذهب إلى نحو 200 ألف أونصة (أوقية) سنويا.
إضافة إلى التضخم العالمي المتصاعد، والمخاوف إزاء استقرارالنظام المالي، وضعف الدولار الذي يمكن أن يتزايد باستمرار معدلات سعر الفائدة الأمريكية قريبا من الصفر، سعيا لتوفير حماية للاقتصاد الأمريكي.

وهناك روابط بين توقع استمرار صعود الأسعار والطلب المتزايد للاستثمار بالذهب من صناديق الاستثمار واستمرار الطلب المعتاد من الأفراد على الذهب كوسيلة للادخار وملاذ بالأزمات، خاصة وأن هذه الزيادة في الطلب لا تقابلها زيادة في العرض بسبب صعوبات عمليات الاستخراج ونقص انتاج جنوب إفريقيا - والتى ظلت لعشرات السنين تتربع على عرش إنتاج الذهب - فبعد أن كان النصيب النسبي لجنوب إفريقيا 68% من الإنتاج العالمي عام 1970، انخفض إلى 10% عام 2007، ثم تراجع ترتيبها إلى المركز الثالث عالميا بعام 2008 بعد الصين وأمريكا.
وانعكس تراجع انتاج جنوب إفريقيا على انخفاض الإنتاج العالمي، والذي نقص من 2518 طنا عام 2005 إلى 2469 طنا عام 2006، ثم استمر في التراجع إلى 2444 طنا في 2007، وواصل الانتاج العالمي انخفاضه عام 2008 إلى 2356 طناً. ورغم تراجع الإنتاج الدولي، فقد استمر الطلب العالمي على الذهب في التزايد من 3552 طنا عام 2007 إلى 3804 أطنان عام 2008.
وفوق ماسبق، نجد أن تكاليف إنتاج أونصة (أوقية) الذهب قفزت إلى 371 دولارا في النصف الأول من عام 2007، أي بزيادة 21% على الفترة ذاتها من عام 2006 مما يزيد سعرها.
وأخيرا، يبدو أن الفلسفة الاستثمارية الراهنة تتجه نحو اعتماد الذهب كمستودع للقيمة والثروة، يضمن تلافي مخاطر استخدام وسائل الاستثمار الأخرى في ظل تقلبات أسعار الصرف ومخاوف التذبذب في أسواق البورصة بعد إعلان بعض الشركات إفلاسها في بعض دول العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق