الجمعة، 28 يناير 2011

صناديق الثروة السيادية الخليجية في الميزان


28/1/2011
الاقتصادية



أ.د. محمد إبراهيم السقا
أصدر المعهد الدولي للصناديق السيادية تحديثا لاستثمارات صناديق الثروة السيادية في العالم عن الربع الرابع من العام الماضي، المعروضة في الجدول رقم (1)، ووفقا لهذه التقديرات بلغ إجمالي استثمارات الصناديق السيادية للثروة في العالم في الربع الرابع من 2010 ما قيمته 4.1 تريليون دولار، ويلاحظ من الجدول أن صناديق الثروة السيادية استعادت مستويات استثماراتها على المستوى الدولي، بعد الانخفاض الذي شهدته تلك الصناديق في أعقاب الأزمة المالية العالمية، وهو ما يمكن أن يعزى إلى الفوائض التي تحققها الدول المالكة لهذه الصناديق في موازين مدفوعاتها، في الوقت الذي لا يتم فيه توجيه هذه الفوائض نحو الاستثمار في الاقتصادات الوطنية للدولة المالكة لهذه الصناديق، استنادا إلى ضيق الطاقة الاستيعابية المحلية لتلك الدول، وتثير هذه الاستثمارات الضخمة للصناديق السيادية قلق الدول الصناعية على نحو واضح، وينبع القلق الدولي من صناديق الثروة السياسية من ضعف الشفافية المحيطة باستثمارات هذه الصناديق، والخوف من احتمال استخدام تلك الأصول في تمويل أغراض أخرى غير تجارية.

لتهدئة القلق الدولي حيال هذه الصناديق، قامت الدول صاحبة هذه الصناديق بوضع مبادئ سنتياغو للصناديق السيادية للثروة، التي تضم مجموعة من المبادئ الطوعية التي تتبناها الدول الأعضاء في مجموعة العمل للصناديق السيادية للثروة، والتي تهدف إلى إرساء هيكل شفاف للحوكمة يكفل سلامة إدارة المخاطر وتأكيد المساءلة وضمان الالتزام بكل متطلبات التنظيم والإفصاح المرعية في البلدان التي تستثمر فيها صناديق الثروة السيادية.
كما اتفقت الدول المالكة لصناديق الاستثمار السيادية على إنشاء مجموعة عمل دولية للصناديق الاستثمارية السيادية، وكذلك إنشاء منتدى دائم للدول المالكة لهذه الصناديق لتبادل وجهات النظر حول أنشطتها الاستثمارية.
وفقا لتقديرات المعهد الدولي لصناديق الثروة السيادية، تمتلك دول مجلس التعاون صناديق ثروة سيادية يبلغ إجمالي استثماراتها 1.42 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يمثل نحو 35 في المائة من إجمالي استثمارات صناديق الثروة السيادية في العالم، كما يتضح من الجدول رقم (2).
الشواهد المتاحة حاليا توحي باحتمال ارتفاع هذه النسبة بصورة جوهرية، بمجرد خروج العالم من الأزمة الحالية، حيث سنعود مرة أخرى إلى عصر الأسعار المرتفعة للنفط، ومعه من المتوقع أن تحقق دول الخليج فوائض نفطية ضخمة خلال السنوات المقبلة، ومن ثم تراكم أصول هذه الصناديق على نحو غير مسبوق، وهو ما يثير قضية حسن استغلال هذه الفوائض.
من وجهة نظري، إن استثمار هذه الفوائض من خلال صناديق الثروة السيادية ليس هو الخيار الأمثل لدول مجلس التعاون، فصناديق الثروة السيادية هي بمثابة هدية نقدمها للدول التي نستثمر فيها، في الوقت الذي تقتصر فيه استفادتنا هنا في الخليج على الحدود الدنيا، بل تميل استفادتنا منها إلى التناقص بمرور الزمن، وكذلك ترتفع مخاطرنا من مثل هذه الاستثمارات، خصوصا في ظل نظام مالي عالمي، أقل ما يمكن أن يوصف به أنه نظام منفلت، ولذلك ترتفع المخاطر المحيطة به بصورة أكثر من أي وقت مضى.
في أكثر من موضع أشرت مسبقا إلى أن التكاليف التي تتحملها دول المجلس من الاحتفاظ بتلك الصناديق تفوق العوائد التي يمكن تحقيقها منها، بصفة خاصة يمكن تلخيص أعباء استثمار الفوائض من خلال تلك الصناديق في الآتي:
ــــ إن استثمار هذه الفوائض في الخارج تترتب عليه تكلفة فرصة تتحملها دول المجلس تتمثل في الناتج الضائع في القطاع غير النفطي، الذي يمكن توليده محليا إذا ما تم استثمار أصول هذه الصناديق في أصول إنتاجية في الداخل، وهو ما يعني أن معدلات النمو التي يتم تحقيقها محليا تقل بصورة واضحة عن معدلات النمو الكامنة التي كان من الممكن تحقيقها لو تم استثمار هذه الاستثمارات محليا.
ــــ إن توجيه هذه الأصول نحو الخارج يؤدي إلى فقدان الفرص الوظيفية التي يمكن توفيرها للداخلين الجدد إلى سوق العمل نتيجة توجيه مثل هذه الأصول محليا، بدلا من أن تستخدم هذه الأصول في الخارج لخلق فرص عمل لعمال الدول الأخرى، في الوقت الذي لا تستفيد فيه قوة العمل المحلية من تلك الفرص في شيء، أو بمعنى آخر هذه الصناديق تساعد الدول الأخرى على حل مشكلة البطالة فيها، بينما تتعقد تلك المشكلة هنا.
ــــ إن العوائد المحققة من مثل هذه الاستثمارات تعد محدودة وتقتصر على نسبة محددة من الفائدة، أو نسبة محددة من توزيعات الأرباح، ومثل هذه العوائد لا تتناسب أبدا مع تكلفة الفرصة البديلة لتلك الاستثمارات، بالنظر إلى العوائد الضخمة التي يمكن أن تعود علينا إذا ما تم استثمار هذه الأصول بكفاءة هنا محليا، أو بالنظر إلى العوائد المختلفة التي تحققها الدول المستضيفة لهذه الأصول في الخارج.
ــــ إن استثمار هذه الفوائض في الخارج يؤدي إلى مساعدة تلك الدول على تكوين أصول إنتاجية تؤدي إلى زيادة مستويات الثروة في الخارج، ترفع من مستويات التنافسية الدولية للدول المستقبلة لها، بينما يحرم الاقتصاد المحلي من مثل هذه الأصول للثروة المنتجة.
ــــ إن الأزمة المالية العالمية الحالية أوضحت بما لا يدع مجالا للشك طبيعة المخاطر التي تصاحب عمليات استثمار تلك الأصول في الخارج، والتي يمكن أن تنجم عن احتمال تعرض أصول تلك الصناديق للانهيار مع انهيار أصول المؤسسات التي يتم الاستثمار فيها، والمخاطر المصاحبة لسوء إدارة تلك الأصول في الدول المضيفة، وهو ما يرفع احتمال تعرض تلك الاستثمارات إلى الخطر.
ــــ احتمالات تعرض هذه الاستثمارات لمخاطر انخفاض قوتها الشرائية بفعل ارتفاع معدلات التضخم في الدول التي يتم الاستثمار فيها، وكذلك تعرضها لمخاطر تقلبات معدلات صرف عملات الدول المضيفة، فضلا عن المخاطر السياسية، المتمثلة في احتمال تغير وجهات نظر الدول المضيفة لتلك الاستثمارات، خصوصا أننا نعيش في أكثر مناطق العالم سخونة.
للأسف يمكن القول إن أداء دول المجلس في مجال تنويع هياكلها الاقتصادية يعد محدودا جدا، على الرغم من نجاحها في إرساء بنى تحتية متطورة نسبيا بمقاييس الدول النامية، ومن الأفضل لدول المجلس أن تعمل على توجيه هذه الاستثمارات داخليا، بما يساعد هذه الدول على الانفكاك من قيد أحادية مصدر الناتج والدخل الذي سينضب إن آجلا أو عاجلا، وفي رأيي أن مثل هذه الصناديق تمثل فرصة نادرة لدول المجلس لتنمية القطاع غير النفطي، حيث يعطى الأولوية الأولى في استثمار تلك الفوائض، بما يساعد هذا القطاع على أن يصبح المصدر الرئيس للدخل والملجأ الأول لتوظيف العمالة الوطنية، وحيث تحقق تلك الدول استقرارا اقتصاديا أكبر، وتتخلص من تأثير تقلبات أسعار النفط الخام على أوضاعها الاقتصادية الكلية، فما زال الأداء الضعيف للقطاع غير النفطي في فترات تراجع الإيرادات النفطية أكبر إشارة على أن الجهود التنموية التي بذلت حتى الآن فشلت في تحقيق استقلالية القطاع غير النفطي، وفصله عن القطاع النفطي، حيث ينطلق في نموه بعيدا عن هذا القطاع.
مما لا شك فيه أن ذلك التحول يتطلب مراجعة مكثفة لمناخ الاستثمار والأعمال، ومراجعة مكثفة للقوانين والإجراءات التي تحيط بهذا المناخ، ومحاربة الفساد الإداري والقضاء على البيروقراطية، وتعظيم الشفافية في كل القرارات والإجراءات الحكومية، وإعطاء مزيد من الحريات السياسية، وذلك لتهيئة بيئة الأعمال بشكل أفضل وبدء انطلاقة تنموية جديدة هدفها الأساسي تعديل الهياكل الاقتصادية للتهيؤ بشكل أفضل لمواجهة ما يحمله المستقبل بالنسبة لنا من تحديات، وتخفيف الاعتماد الحالي على النفط ورسم دور آخر في التقسيم الدولي للعمل، وكسب مزايا تنافسية جديدة تقوم على قاعدة إنتاجية صلبة، مدعمة بأساس جيد من الاستثمارات المكثفة في البحث والتطوير.
باختصار، في رأيي، ينبغي أن تجرى الدراسات وترسم الخطط حول كيفية الاستفادة من هذه الصناديق بشكل أمثل محليا، بدلا من استثمارها لدى الغير، ليكون هو المستفيد الأول منها، بينما نسمح لأوضاعنا الاقتصادية بالتدهور بسبب عدم قدرتنا على الاستفادة من الفرص التي تتيحها مثل هذه الصناديق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق