السبت، 25 أكتوبر 2008

غسيل الأموال.. جريمة ذوي الياقات البيضاء

25/10/2008
إيمان التوني




جريمة ذوي الياقات البيضاء
جريمة ذوي الياقات البيضاء

"غسيل الأموال" جريمة اقتصادية تقوم بإعادة تدوير الأموال الناتجة عن أعمال غير مشروعة في مجالات وقنوات استثمار شرعية لإخفاء المصدر الحقيقي لهذه الأموال. ويطلق عليها "جريمة ذوي الياقات البيضاء"، نظرا لعدم مواءمة سمات مرتكبيها مع السمات الإجرمية التي حددتها نظريات علم الإجرام التقليدية.
وتعرف أيضا بـ"الجريمة عابرة الحدود"، حيث غالبا ما تكون هذه الأموال غير المشروعة أموالا هاربة خارج حدود سريان القوانين المناهضة للفساد المالي ثم تحاول العودة مرة أخرى متلبسة بصبغة شرعية. وبالتالي يصعب الحصول على إجابة للسؤال الشهير (من أين لك هذا؟)
لذا تمثل عمليات "غسيل الأموال" تهديدا للأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي، لما تسببه هذه الجرائم من تداعيات سلبية بالغة الخطورة، من أبرزها إحداث عجز في ميزانيات الدولة الخارجة منها الأموال، وفائض في ميزانيات الدول الوافدة إليها، فضلا عن انتقال القوة الاقتصادية والسياسية في الدولة إلى أيدي العصابات الإجرامية، ومن ثم التحكم بمصير الدولة.
ومع شيوع استخدام وسائل الاتصالات الرقمية والعمليات المصرفية الإلكترونية، تفاقمت مشكلة "غسيل الأموال"، التي أصبحت تتم عبر الإنترنت والهاتف المحمول، ما ساهم في التستر على هذه العمليات وإخفاء مراحلها – خاصة الأولى - ومن ثم صعوبة تتبع حركة انتقال الأموال المغسولة.
ورغم الاعتراف الدولي بصعوبة تقدير الكمية الحقيقية للأموال المغسولة، إلا أنه وفقا لإحصائيات صندوق النقد الدولي، فإن حجم عمليات "غسيل الأموال" يتراوح ما بين 620 مليار دولار إلى 1.6 ترليون دولار، أي ما نسبته من 2% إلى 5% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وتشير المعلومات إلى أن عمليات "غسيل الأموال" فى روسيا تتراوح ما بين 25% إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي 10% لجمهورية التشيك، ومن 7% إلى 13% لبريطانيا، وتتصدر الولايات المتحدة والمكسيك وسويسرا قائمة الدول الأكثر ملاذا لـ"غسيل الأموال".
كما أفاد تقرير رسمي أعدته وزارة الخارجية الأمريكية ورفعته للكونجرس أن حجم تجارة "غسيل الأموال" يصل إلى نحو 3.61 تريليون دولار، وهو أكبر من الميزانية الأمريكية الراهنة، وما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد العالمي. وأوضح التقرير أن "غسيل الأموال" تضاعف بمعدل سريع على مدى العقد السابق بعد أن كان يتراوح بين 300 و500 مليار دولار عام 1997، مشيرا إلى أن المعادن النفيسة والأحجار الكريمة زاد استخدامها بشكل ملحوظ في "غسيل الأموال" و"نقل القيمة" و"تمويل الإرهاب".
كما حذر التقرير من أنه مع تنامي تطور قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات فإن التحويلات الرقمية أو تلك التي تتزايد عبر الهواتف المحمولة تحتاج إلى اهتمام خاص. وحددت وزارة الخارجية الأمريكية الدول الرئيسية في غسيل الأموال فى عام 2008، والتي بلغت نحو 60 دولة من بينها دولتان عربيتان هما لبنان والإمارات.
تمر عملية غسيل الأموال بثلاث مراحل رئيسية هي:
1) الإحلال: وتعني هذه المرحلة التخلص من الأموال المشبوهة من خلال إيداعها في البنوك والمؤسسات المالية أو شراء العقارات أو الأسهم أو السندات أو الشيكات السياحية أوالمشاركة في مشاريع استثمارية قد تكون حقيقية وقد تكون وهمية ثم بيع تلك الأسهم ثم نقل الأموال إلى خارج حدود البلد الذي تم فيه الإيداع.
2) التغطية: حيث يتم طمس علاقة تلك الأموال مع مصادرها غير المشروعة من خلال القيام بالعمليات المالية والمصرفية المتتالية.
3) الدمج: وتتميز بعلنية نشاطاتها، وذلك من خلال دمج هذه الأموال في الدورة الاقتصادية وخلطها في بوتقة الاقتصاد الكلي، بحيث يصعب التمييز بين الثروة ذات المصدر المشروع وغيرها من الثروات ذات المصادر غير المشروعة، وإضفاء الطابع القانوني على أعمالها.
للبنوك دور مزدوج وذو حدين
وبما أن البنوك هي "مخزن المال" فإن دورها في عمليات "غسيل الأموال" مزدوج وذو حدين، حيث توجه إليها الأموال المغسولة من جهة، وتعد العنصر الرئيسي في مواجهة عمليات "غسيل الأموال" من جهة أخرى، باعتبارها الحلقة التي تدور فيها تلك العمليات.
ولأن "السرية" من أهم قواعد العمل المصرفي والتي تفرضها القوانين والأعراف المصرفية، تباينت مواقف الدول حول إمكانية استبعاد سرية العمل المصرفي في المسائل المتعلقة بشبهة حول عمليات غسيل الأموال، فمنها من يشدد في تلك السرية - وهي غالبا الدول التي تعتبر مرتعا خصبا لعمليات غسيل الأموال - ومنها من يجعل السرية المصرفية منوطة بسلامة إجراءات الحساب وعدم وجود أية حالات يمكن الاشتباه بأن مصدرها قد يكون غير مشروع.
وتنسب أول عملية "غسيل أموال" في التاريخ إلى أشهر قادة المافيا "آل كابون" الذي لجأ إلى شراء أصول وإنشاء مشروعات، فأحيل إلى المحاكمة عام 1931، لكن ليس بتهمة غسيل الأموال - غير المعروفة في ذلك الوقت - وإنما بتهمة التهرب الضريبي. وأدين في هذه المحاكمة "ميرلانسكي" لقيامه بالبحث عن وسائل لإخفاء الأموال باعتباره المحاسب والمصرفي العامل مع "آل كابون"، وهو ما يمثل أحد أبرز وسائل غسيل الأموال فيما بعد، حيث الاعتماد على تحويل نقود إلى بنوك أجنبية وإعادة الحصول عليها عن طريق القروض.
وذكر مصطلح "غسيل الأموال" إعلاميا في الصحف إبان فضيحة "ووترجيت" في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973.
بينما ورد "غسيل الأموال" في سياق قانوني للمرة الأولى، عندما صدر حكم قضائي في الولايات المتحدة عام 1982، قضى بمصادرة أموال قيل عنها أنها مغسولة ومتولدة من تجارة الكوكايين الكولومبي.
ومن أشهر قضايا "غسيل الأموال"، قضية رئيس الوزراء الأوكراني السابق "لوزارينكو"، الذي أدانه القضاء السويسري في 29 يونيو/ حزيران عام 2000 وحكم عليه بالسجن لمدة 18 شهرا لقيامه بأنشطة غسيل أموال تبلغ 880 مليون دولار في الفترة ما بين 1994 و1997، من بينها 170 مليون تم غسيلها عبر حسابات سويسرية. واعترف "لوزارينكو" بعملية غسل 9 ملايين فقط، وتم اعتقاله من قبل السلطات السويسرية في ديسمبر/ كانون الثاني عام 1998 عندما دخل سويسرا بجواز سفر بنمي مزور، وأطلق سراحه بكفالة بلغت 3 ملايين دولار أمريكي، ثم غادر إلى الولايات المتحدة للجوء السياسي في أبريل/ نيسان عام 1990 لكنه ضبط من قبل دائرة الهجرة في نيويورك لخرقه نظام الهجرة والفيزا ودخوله غير المشروع، وبناء على طلب أمريكي قامت السلطات السويسرية بتجميد أرصدة 20 حسابا بنكيا لـ"لوزارينكو"، وتم إلقاء القبض عليه واحتجازه ومنع كفالته نيابة عن السلطات السويسرية. وتقدم المدعي العام في سان فرانسيسكو بلائحة اتهام ضد "لوزارينكو" وشخص آخر هو "بيتر كيرتشينكو" الذي يعتقد بأنه هو الذي قام بتنفيذ عمليات "غسيل الأموال"، وتتضمن اللائحة اتهامهما بتحويل 114 مليون دولار أمريكي إلى عدد من البنوك والمؤسسات خلال الأعوام من 1994 إلى 1997، إضافة إلى توجيه الاتهام لهما بشراء موجودات ومشاريع في الولايات المتحدة خلال عامي 1997 و1998 نقدا. وتوجيه الاتهام بالاحتيال وتحويل أموال مسروقة إلى الولايات المتحدة، وأصر "لوزارينكو" خلال الجلسة الافتتاحية في 13 يونيو/ حزيران 2000 على أنه غير مذنب. وجرى التحقيق في مصادر أمواله، وتبين أنها نجمت عن استغلال رئيس الوزراء الأوكراني لمهام وظيفته التي تولاها في الفترة ما بين مايو/ آيار 1996 وحتى يوليو/ تموز 1997، وجراء تلقيه مبالغ نقدية من أفراد ومؤسسات ورشاوى لتسهيل تنفيذهم لأعمالهم. وتعد هذه القضية أول قضية وفق قانون غسيل الأموال الأمريكي تستخدم الإجراءات فيها بشأن أنشطة ارتكبت خارج الولايات المتحدة وتتعلق بشخص من خارجها.
لذا تتطلب مكافحة "غسيل الأموال" تعاونا يتجاوز الحدود الجغرافية. وقد اتخذت أول خطوة دولية نحو تجريم غسل الاموال المتحصلة من الاتجار غير المشروع بالمخدرات من خلال "اتفاقية فيينا" الصادرة عن الأمم المتحدة في 20 ديسمبر/ كانون الأول عام 1988، والخاصة بمكافحة الإتجار غير المشروع في المواد المخدرة والمؤثرات العقلية والتى دخلت حيز التنفيذ فى 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990 . وألزمت الاتفاقية الدول الأعضاء بتجريم سلوكيات تنطوى على "غسيل الأموال" الناتجة من الإتجار بالمخدرات والمواد الشبيهة.
جهود دولية لمكافحة غسيل الأموال
وفي نفس العام الذي وقعت فيه "اتفاقية فيينا"، وقعت 11 دولة - هي الولايات المتحدة، واليابان، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، وفرنسا، و السويد، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا، وسويسرا - على ما عرف باسم "إعلان لجنة بازل" لسنة 1988. ويختص هذا الإعلان بمنع الاستخدام الإجرامي للنظام المصرفي لأغراض "غسيل الأموال" أيا كان مصدره. وتضمن عددا من التوصيات تم صياغتها من جانب ممثلي البنوك المركزية وبعض المؤسسات المالية ذات الطابع الإشرافى .

وفي باريس عام 1989، أصدر مؤتمر قمة الدول السبع الصناعية الكبرى (أمريكا، وكندا، واليابان، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وبريطانيا) قرارا بتشكيل لجنة خاصة مستقلة لمكافحة "غسيل الأموال" أطلق عليها "فريق العمل المالي لمكافحة غسيل الأموال" والمعروفة بـ"لجنة فاتف" (F.A.T.F)، لدراسة منع استخدام البنوك والمؤسسات المالية لـ"غسيل الأموال" خاصة الناتجة من تجارة المخدرات. وانضم إلى هذه اللجنة عدة دول حتى بلغ أعضاؤها 26 دولة، بالإضافة إلى منظمتين إقليميتين هما المجلس الأوروبي، ومجلس التعاون الخليجي .
وقد أصدرت "لجنة فاتف" 40 توصية تستخدم كمعايير دولية موحدة لمكافحة "غسيل الأموال" وتعد دليلا إرشاديا يغطى مجالات النظام القضائي والتعاون الدولي .وتصدر اللجنة تقارير سنوية عن أعمالها وأنشطتها وتوصياتها إلى الدول الأعضاء بهدف تحسين النظم المتبعة لمواجهة ظاهرة "غسيل الأموال"، وتتابع تنفيذ توصياتها، وتوفر لوحدات مكافحة "غسيل الأموال" بالدول المتعاونة معها المعلومات الإرشادية عن أصحاب الأموال المشبوهة داخل الدولة وغيرها من الدول.
وفي 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990، أتبعت "اتفاقية فيينا" بأخرى وقعت من قبل الأعضاء فى المجلس الأوروبى عرفت بـ "اتفاقية ستراسبرج". وتتعلق بمكافحة "غسيل الأموال" الناتجة عن الجريمة، والإجراءات التى يتعين إتباعها لتتبع وضبط ومصادرة هذه الأموال. وأقرت هذه الاتفاقية ما كل نصت عليه "اتفاقية فيينا" لكنها وسعت من نطاق تطبيقها لتشمل "غسيل الأموال" الناشئة عن الجريمة أيا كان نوعها، دون الاقتصار على الأموال الناتجة عن الإتجار بالمخدرات.
وفي 7 فبراير/ شباط 1992، تم توقيع "اتفاقية ماستراخت" التي نصت على إنشاء "هيئة الإيروبل" التى تم توقيع اتفاقية إنشائها فى عام 1995، بهدف تحسين فاعلية التعاون الدولي بين الجهات المعنية بمكافحة الأشكال الخطيرة للإجرام الدولي، ومنه جرائم "غسيل الأموال". وتتدخل "هيئة الإيروبل" فى الجرائم التي تتعدى إقليم الدولة الواحدة إلى غيرها من الدول وتقوم بعمل أبحاث عن تلك النوعية من الجرائم. وقد أسست الهيئة بنكا للمعلومات وتبادلها، وتقدم الحلول الملائمة فى التحقيقات التي تجري في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي .
وفى أكتوبر 2000، اتفق 11 مصرفا عالميا تصدرها "باركليز بنك"، و"سيتى جروب"، و"تشيرمنهاتن بنك" على ميثاق جديد للسيطرة على عمليات "غسيل الأموال".
ورغم كل هذه الاتفاقيات والهيئات واللجان إلا أن المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية تؤكد ارتفاع معدل ارتكاب هذه الجريمة وتزايد أعداد مرتكبيها من "ذوي الياقات البيضاء"!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق