السبت، 13 أكتوبر 2012

أكبر خبير بورصة في مصر يكشف كيف تم تهريب أموال الكبار؟


ما إن تهدأ الثورة وتتحول كافة الأنظار إلي الأحوال الاقتصادية وروشتة العلاج التي تدفع الاقتصاد الوطني إلي الأمام وتعيد إليه عافيته حتي يكون جاذباً للاستثمارات الأجنبية. لذلك التقت الـ «الموجز» مع أحد الخبراء في هذا المجال وهو هاني توفيق رئيس الاتحاد العربي للاستثمار المباشر وخبير أسواق المال ليكشف لنا العديد من الحقائق حول فتح ملفات الفساد في البورصة وتورط شخصيات كبيرة في قضايا فساد من العيار الثقيل وغيرها من المفاجآت. > فتح ملف الفساد في البورصة خلال الفترة القادمة، ومحاسبة بعض المسئولين هل تراه في مصلحة البورصة المصرية في ظل الانخفاضات التي شهدتها مؤخرا قبل إغلاق التداول؟ >> لا يوجد فتح أو كشف فساد في غير صالح السوق فعمليات كشف الفساد في صالح السوق من خلال تعريف الفساد في البورصة تعريفا دقيقاً حتي لا يختلط الحابل بالنابل ويجب أن يكون فتح تلك الملفات موثقاً بمستندات وليس كلاما مرسلا وأغلب أشكال الفساد في البورصة المصرية كانت من خلال تسريب المعلومات أو استخدام معلومات داخلية في التربح والتسابق بيعا وشراء. > ما تعليقك علي تجميد أسهم رجال الأعمال الذين يتم التحقيق معهم في السوق ، وهل سيؤثر ذلك علي السوق خاصة أنها من الأسهم القيادية في السوق؟ >> بالطبع تجميد تلك الأسهم أثر بالسلب علي السوق وسيؤثر بالفعل علي السيولة مع بدء التداول لكنني أري أنه لا مانع لدي الشرفاء من المستثمرين في سداد ثمن بسيط يتواكب مع كشف الفساد في سبيل تطهير السوق من كافة أشكال الفساد مستقبلا. > ماذا عن رؤيتك لدور كل من جمال مبارك وهيرمس وأولاد هيكل في البورصة المصرية؟ >> أولاد هيكل من كبار اللاعبين في السوق المصرية و سلوكهم في تصوري أعلي من مستوي الشبهات فهم بقدر من الحرفية وعملوا لفترة طويلة في مؤسسات كبيرة أما بالنسبة لجمال مبارك وملكيته لحصة في هيرمس فلا يمكن أن نجزم الآن أنه كان قد تلاعب في البورصة المصرية بصفته شريكا في هيرمس أم لا إلا أنه في المقابل كونه شريكا لهيرمس في الملكية الخاصة يلقي بعض ظلال الشك في مدي تدخله في ترسية عمليات بعينها علي الشركة المذكورة وما إذا كان استغل سلطاته في التربح لصالحه أو لصالح هيرمس فالأمر في النهاية متروك السلطات التحقيق التي يمكنها بسهولة تتبع كل عمليات الشراء والبيع التي قامت بها هيرمس ومدي الشفافية المصاحبة لكل عملية فتتبع التلاعبات في الملكية أمر سهل كشفه. > سوف تخرج البورصة المصرية من قائمة المؤشرات العالمية إذا استنفدت المهلة المحددة للتوقف وهي 40 يوما متصلا وهو أمر غاية في الخطورة وإن  كان خافيا عن البعض فكيف تري ذلك ؟ البورصة لم تكن لتقفل أبوابها لمدة أكثر من أسبوع منذ بدء الأحداث الجارية من توترات علي صعيد الأوضاع السياسية وتعود للفتح مع عودة البنوك أما أسلوب الهواة في إدارة البورصة فقد أدي بالفعل إلي زيادة الإحساس بالخطر فكل تأخير في فتح البورصة  سيؤدي لمزيد من الانهيار والدليل علي ذلك أن أسعار الأسهم خلال 31 يناير الماضي في بورصة لندن مرتفعة ب8 % عن أسعار الإغلاق يوم 27 يناير في مصر فلو تم فتح البورصة بعد أسبوع علي حد أكثر لكانت صدمة المستثمرين قد انتهت نهائيا ولم تنخفض أسعار الجي دي ار حاليا بنسبة 12 % عن أسعار 27 يناير في مصر مع العلم أن كل تأخير في فتح البورصة سوف يؤدي إلي كارثة ومزيد من انهيار الأسعار مع إعادة التداول مرة أخري. > هل تري مع استقرار الأوضاع السياسية ، سيكون هناك عودة للأجانب إلي السوق مرة أخري؟ >> لا أعتقد أن يحدث ذلك قبل مرور وقت طويل وعند التأكد من استقرار الحالة السياسية والأمنية ووضوح الرؤية لدي الجهات الرقابية والبنك المركزي لضمان سهولة وسرعة وحرية الدخول أو الخروج من السوق بحيث لا يتكرر معهم ما حدث خلال الفترة الماضية. >> البعض رأي أن عمليات الخصخصة الفترة الماضية شهدت بعض التلاعبات وإهدار للمال العام. > خاصة صفقة بيع البنك المصري الأمريكي وبنك الأسكندرية فما رأيك؟ >> اعتقد أن عملية نقل الملكية لبنك كاليون عام 1990 تمت وفق قيمة عادلة للسهم وقتها والنزاع فقط كان حول صندوق العاملين وأري أنه يجب عدم ضياع الوقت في عمليات خصخصة تمت بالفعل من شأن فتحها مرة أخري احباط الهمم ويرجعنا إلي الوراء ويقلل جلب الاستثمار الأجنبية إلا في الحالات الصارخة. >> فأعتقد أنه بعد مرور حوالي 20 عاما يعطي إحساساً للبعض أن سعر بيع البنك المصري الأمريكي يعد سعراً بخساً لكنه في المقابل كان سعرا عادلاً وقتها و لا يفضل الكلام عن الخصخصة بأثر رجعي إلا مع وجود وثائق رسمية تؤكد وجود شبهة فساد فلا مانع وقتها من فتح الملفات من جديد خاصة أن مضار فتح الحديث من جديد عن شبهات فساد غير مؤكدة أكثر من المزايا المرجوة المتوقعة. > المفاجآت المأساوية التي كشفتها الأيام الأخيرة بعد «ثورة 25 يناير» قيام الكبار في الحكومة السابقة بتحويل أموالهم في البورصة للخارج، مستغلين في ذلك ما يعرف بصناديق الأفشور التي تعمل في السوق المحلية ولكن بأكواد أجنبية فكيف تري الحل لوضع رقابة علي تلك الصناديق؟ >> مخاطر هذه الصناديق أنها كانت الباب الخلفي في تهريب الأموال للخارج باعتبارها استثمارات أجنبية تخرج من السوق وليست أموالا مهربة من مصريين بأكواد أجنبية في البورصة للأسف لا يوجد حل فتلك الصناديق من الصعب تتبع أصحابها الأصليين فلا يمكن وضع قيود علي عوائد بيعها ومن المستبعد القيام بإغلاقها لمجرد وجود شبهات فساد. > كيف تري الحل الأمثل للحد من إمكانية تهريب رجال الأعمال المتهمين  في قضايا الفساد لأموالهم عند بدء التداول من جديد؟ >> في رأيي يجب وضع قيود علي تسليم شركات السمسرة لشيكات بمبالغ ضخمة للمستثمرين وهناك محل شك في مشروعية حصولهم علي تلك الأموال المستثمرة أو أن يكونوا واجهة للآخرين. > ماذا عن مشكلة الكريديت لدي شركات السمسرة في هذه الظروف والتي وصل حجمها إلي نحو 3 مليارات جنيه وهل يمكن ان يدعمها صندوق حماية المستثمر ولو بشكل مؤقت أو القرض الذي أقرته وزارة المالية؟ >> صندوق حماية المستثمر تم تمويله من قبل المستثمرين بالسوق وليس شركات السمسرة والغرض منه تغطية المخاطر غير التجارية للتعامل في السوق أما ما حدث من مخاطر تجارية لا ينصب عليها من الناحية التجارية صندوق ضمان التسويات وإذا ما قرر العاملون بالبورصة اختيار حصيلة الصندوق في دعم البورصة في الوقت الحالي يجب تغيير نظام الصندوق الأساسي ليتناسب مع تلك الإجراء. >> أما بالنسبة لقرض وزارة المالية فهو مخدر ضرره سيظهر علي المدي الطويل فهو بمثابة أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق فمنح كريديت هو من أعمال البنوك وهذا مخالف قانونيا بالنسبة لشركات السمسرة فتلك الأموال بمثابة أموال عامة تستخدم في حل مشكلة شركات ومضاربين في السوق علي حساب المجتمع كله ودافعي الضرائب ثانيا مع العلم أن تلك القروض بمثابة تأجيل وقتي للمشكلة وعدم الوصول لحل جذري لها فيجب لآليات السوق أن تعمل بكل حرية وتعكس أسعار الأسهم أوضاع البلد الذي تعمل به. > طالب البعض بضرورة فرض قيود علي حركة "الأموال الساخنة" "الهوت موني" تتمثل في فرض ضرائب علي حركة هذه الأموال، معتبرين أنها من عوامل انهيار البورصة المصرية؟ >> كلام غير منطقي ... فنحن ننافس بورصات عالمية الأجانب لا يدفعون بها ضرائب فالحديث عن فرض ضرائب علي أموال الأجانب ليس في محله حاليا في ظل انخفاض البورصة فخسارة بعض المضاربين والمستثمرين مكسب لمستثمر آخر يقوم بالشراء في الوقت والسعر المناسب وهي سمة جميع الأسواق. > ما رأيك في بعض الحملات لتدعيم البورصة المصرية مثل "ساهم ولو بمائة جنيه وانقذ اقتصاد بلدك "؟ >> "ساهم ولو بمائة جنيه" المقصود عمل الخير وعمل الخير يجب أن يذهب إلي الجمعيات الخيرية وليس البورصة أما الراغبون في تدعيم البورصة عن طريق التبرع فهذا حق يقصد به باطل فذلك الدعم سيذهب لتمويل تخارج احد المستثمرين يريد الخروج من السوق وبعد نزول الأسعار يقوم بالشراء من جديد وهو تدعيم ليس في صالح البورصة ولكن في صالح المستثمرين الراغبين في التخارج من السوق

الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

الحكومة تواجه ظروفا قاسية ولا يمكنها تحقيق مطالب الشعب فورا



الحكومة تواجه ظروفا قاسية ولا يمكنها تحقيق مطالب الشعب فورا
المصدر: الأهرام اليومى
 
علي غير عادتي، حاصرته بمكالماتى ثلاثة أشهر، لأجل هذا الحوار، فما زادته إلا تمنعا. طاردته بشغف طفولي، وحينما أوشكنا علي الاتفاق بادرني بسؤال: "هو أنت شاطر يعني؟!". قلت: "مِش وِحِش. أَجي إِمتي!"، اتفقنا. في الموعد المحدد قرعت الجرس، فوجئت به يفتح الباب بنفسه، مرتديا رداء بسيطا، ممسكا بـ"سيجار" فاخر. أخذنا بأطراف الحديث، فأيقنت أن المشقة معه لم تكن عبثا. المفكر الاقتصادي الدكتور حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء وزير المالية السابق، رجل يهوي قول الأمور عارية بلا مساحيق تجميل. أبحر عميقا في أوجاع الاقتصاد المصري، التي تلتهب لها العواطف ويكاد يغيب عنها الرشد، محذرا الحكومة والشعب من أن الانغماس في مجرد "إطفاء الحرائق المشتعلة"، كمن يطلق النار علي قدميه. طرح الببلاوي رؤية للخلاص والتقدم، تفتح كوة للمستقبل، تردم الأوهام والمزايدات، مذكرا بحاجتنا إلي "تشرشل" في زمن الحروب التي نحياها علي أكثر من مستوي، خاصة أن النمو الحقيقي الوحيد عندنا هو في زيادة النسل.!
- توليتم مناصب مرموقة دوليا ومحليا، من واقع خبرتكم هل الاقتصاد المصري في محنة لافكاك منها؟
أري أنه يمر بظروف صعبة، وليس هذا جديدا، مصر في ظروفها العادية لديها مشكلات كبيرة وتحاول بناء اقتصاد قوي، وجاءت الثورة فعطلت بعض الموارد وزادت الصعوبات الاقتصادية علي البلد.
- لكنك ذكرت أننا بحاجة إلي "تشرشل" جديد، فهل نحن في "وضع حرب" علي نحو ما كانت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية؟
لسنا في وضع حرب، لكنه "أقرب إلي الحرب"، لذا لابد أن يُجند الناس لتمر هذه المرحلة، والذي يجندهم هو الإحساس بالخطر، وإذا تم ذلك سنحقق نصرا كبيرا. تشرشل تولي قيادة بريطانيا بعد "تشمبرلين" في أثناء الحرب، عندها لم يدغدغ أحلام شعبه، إنما قال: "أعدكم بالدم والعرق والدموع، وفي النهاية النصر"، وما تواجهه مصر حاليا يشبه ظروف الحرب، وإذا استمرت هذه الأوضاع سندفع ثمنا باهظا في المستقبل، ولو مرت بسلام سيكون أفضل بكثير من الماضي، هذا أوان العزم، إذا توافرت الثقة.
- ما الذي يمنع حدوث ذلك؟
الوقت صعب والناس يطالبون بأشياء كثيرة حرموا منها ظلما وقهرا وفسادا، عبر سنوات طويلة، وهذا من حقهم، لكن البلد يعاني الآن في ظل غياب الاستقرار. الاقتصاد كله يقوم علي "مفهوم التكلفة"، أي أنه لا توجد منح، كل شيء له ثمن، تدفع الثمن أولا ثم تحصل علي السلعة، تزرع قبل أن تحصد، الناس حاليا ينتظرون الثمرة قبل العمل، هذا لن يكون، ليس هناك وجبات مجانية في الاقتصاد، كل واحد يأخذ ما يستحقه نتيجة جهده، المعضلة أن شعبنا يعاني منذ فترة طويلة،.
- التنبؤ ركن أساسي من أركان علم الاقتصاد، فمتي يفلت المصريون من براثن الأزمة الاقتصادية المستحكمة؟
لابد من قدر من الوضوح والشفافية مع الناس في كل ما يجري، نحتاج لبناء الثقة، إن غياب اليقين بالنسبة للمستقبل يمنعني من اتخاذ "قرار". لا أتحدث عن اليقين الكامل، كل قرار به قدر من المخاطرة، لكن القرارات الاقتصادية تستلزم الوضوح.
- كأنك تلمح لورطة الحكومة الحالية والاتهامات الموجهة إليها بالارتباك والعجز؟
الحكومة تواجه وضعا قاسيا، وهناك توقعات لدي الناس لا يمكن تحقيقها عاجلا، وأي حكومة مكانها كانت ستواجه ذلك، المهم أن تقول للناس وتصارحهم بالحقائق.
- البعض يري أن الحكومة تتبع سياسات الحزب الوطني نفسها؟
أظن أن مشكلة الحكومة ليست في الأساليب القديمة، مشكلتها أنه لم يمض عليها سوي أسابيع قليلة، ومن حقها أن تحظي بالفرصة كاملة للعمل. المطلوب أن تقدم الحكومة - دون تأخير - رؤية وسياسات، نعم لديها بعض العذر في عدم التسرع بطرح وعود غير قابلة للتنفيذ، فلابد من الحرص، لكن الناس لن يستطيعوا الانتظار كثيرا.
- عفوا، أحتاج هنا إلي توضيح أكبر!
أظهر بعض الضيق، وهو يقول: الناس لن يقبلوا دفع الثمن والتضحيات المطلوبة دون أن يعرفوا ماذا ستفعل الحكومة إزاء مشكلاتهم، وهذا يتطلب إجراءات عاجلة في مسائل لا تحتمل الانتظار، الحكومة لا يجوز أن يتوقف دورها علي إطفاء حرائق هنا أو هناك فقط، إنما تقديم رؤية واضحة للمستقبل بعيدة المدي في القضايا الأساسية التي تهم البلد،
- يتابع الشعب المصري، الجدل حول قرض صندوق النقد، كيف تقرأ هذا الجدل؟
هنا قضية مبدئية: القرض إحدي أدوات التمويل المهمة، ويمكن أن تكون مفيدة أو غير مفيدة، يتوقف هذا علي مدي حاجتك إليه، ومدي ملاءمته لحالتك. نحن نتكلم عن القرض وكأنه شيء معيب، وكأن اقتراض الحكومة من الداخل أو قبول وديعة من قطر والسعودية ليس عيبا.
- بتحديد أكثر ما مدي حاجتنا لقرض الصندوق وتجاوب القوي السياسية معه؟
القرض إحدي أدوات السياسة المالية، يفيد المقرض والمقترض، وليس صحيحا أن الأخير يستجدي، فلو لم تذهب للبائع لبارت سلعته ومات جوعا، لذا أرجو الامتناع عن إدخال "أحكام أخلاقية"، مختلف عليها بين الفقهاء في هذا الأمر، وأن تحسم القوي المختلفة أمرها: القرض مقبول أم لا؟!
- الشروط أو القيود التي قد يفرضها الصندوق، هل تحصر خياراتنا بين "المُر والأَمَر"؟
من حق الدائن أن يسأل المدين عما سيفعله بأمواله، حتي يطمئن إلى استرجاعها في نهاية المطاف، ومن حقك أن ترفض شروط أي قرض أيا كان إذا كانت لاتتناسب مع مصلحتك.
- لم تقل ليّ رأيك الشخصي في هذا القرض ؟
نحن محتاجون للخارج، والخارج له مصالح معنا، نعاني مشكلات يمكن أن نحصل علي القرض ونزيل المشكلات، وهذا دور الحكومة، أي وضع خطة للإصلاح وتنفيذها، إذا ذهبت للطبيب ولم يكتب لك روشتة فلن تذهب له ثانية، وإذا كان البرنامج المقترح لعلاج اختلالات موجودة، فلابد أن نقبله ونرحب به. مصر لا يمكنها أن تحقق تقدما إلا بالتفاعل مع العالم الخارجي، اليابان، الاتحاد السوفيتي السابق، والنمور الآسيوية، والصين وحتي الهند، كلها دول حققت قفزتها الكبري باستخدام الخارج، بفتح الأسواق للاستثمارات - باستثناء الاتحاد السوفيتي - وجلب التكنولوجيا، وكلها أخذت سياسة التصنيع: لا تصدق أن هناك طريقا للتقدم بعيدا عن الصناعة.
- الصناعة وحدها؟
بالطبع ليست وحدها لكنها الأساس، بدليل تجربة هذه الدول، قامت بها صناعات قوية، انبثقت من استراتيجية واضحة: دولة قوية، سياسة تصنيعية، الأخذ باقتصاد السوق والانفتاح علي الخارج. نحتاج إلي استثمارات مستمرة بنحو 30% من الناتج الإجمالي، لمدة 30 سنة متصلة، إذا نظرنا لتجارب النمور الآسيوية، مثلا.
- هل تتمكن مصر من ذلك في ظل معدلات الاستثمار المتدنية حاليا؟
معدل الادخار والاستثمار 17% أي نحتاج استثمارات خارجية بنحو 15%، لنحو 30 عاما، يقال إنه لابد من زيادة المدخرات المحلية، صحيح، لكن قدرتنا علي زيادة المدخرات محدودة حاليا. فالدعم مثلا استثمار سلبي يتيح لمتلقيه أن يستهلك أكثر من دخله، ويستحوذ علي 33% من حجم الموازنة، والمشكلة الأكبر أن حجم الدعم يتضاعف، دون أن يذهب لمستحقيه، إنه قضية تحتاج إعادة نظر ورؤية أوضح.
- رفعت ثورة يناير "العدالة الاجتماعية" شعارا لها، لكن الواضح أننا لم نقترب كثيرا من هذا الحلم؟!
لا يمكن أن تقوم العدالة الاجتماعية في جو من الفقر وعدم الإنتاج، وهي مرتبطة بعدالة التوزيع، ما تنتج وما لم تنتج، العدالة لا يمكن تحقيقها بشكل مطلق، علي الأقل يمكن الاقتراب منها.
- فوائد الديون تلتهم 230 مليار جنيه سنويا، ما العمل أمام هذا الغول؟
الدين الخارجي في الحدود المعقولة، الداخلي أكبر ويمثل صعوبة وخطورة، ويلزم البدء في إعادة الانضباط للموازنة بقدر الإمكان.
- بماذا تفسر، إحجام الدول العربية ذات الفوائض المالية المرعبة عن مد يد العون لمصر في هذا الظرف، برغم أن القاهرة قدمت الكثير لها ولغيرها سابقا؟
إن مصر قامت بواجبها أما أن تمن فهذا سوء خلق وتصرف، كما الدول العربية ساعدت مصر في أوقات كثيرة، منذ 1967 وحرب أكتوبر وبعد تحرير الكويت، وخلال 30 عاما كانت تحويلات العاملين المصريين في البلاد العربية دعما للاقتصاد المصري.
- أقاطعه: أتحدث عما كان يجب فعله في لحظة العسرة المصرية؟
بالطبع هم ليسوا ملائكة، ولسنا ملائكة، الآن لم يأت الدعم كما نحب فاتجهنا للأسلوب الخاطئ. علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا نحن غير قادرين علي جذب أموالهم، لابد أن أحوالنا لا تشعرهم، هم أو غيرهم، بالاطمئنان.
- في اتجاه مناقض هناك تخوف واضح من الاستثمارات القطرية وطبيعتها التي يراها البعض احتكارية في قطاعات حساسة، استثمارية أو خدمية؟
ليس هناك خوف محدد من دولة قطر، والاحتكار ضار سواء قطريا أو فرنسيا أو هنديا، أو مصريا، وينبغي وضع قواعد لانضباط السوق، المهم قواعد الانضباط. قطر ليست قوة اقتصادية أو عسكرية مخيفة، علينا ألا نشعر بالريبة والخوف، نضبط أمور بلدنا ونكون فعلا قادرين علي تكوين دولتنا القوية.
- كيف تري الدعوات حاليا للجوء للصكوك الإسلامية كأداة تمويل؟
الصكوك الإسلامية لا تختلف في حقيقتها عن الأدوات المالية الموجودة، وهي نوع من الحيل الشرعية لإلباس عقد قرض يدفع الآن ويسدد بعد فترة، ليظهر وكأنه ليس قرضا، إنما بيع وشراء، وميزته طمأنة عديدين أنهم يتعاملون معاملات مطابقة للشرع، وإن كنت لا أري شخصيا - في القرض مخالفة أو ربا.
- هل يعود برنامج "الخصخصة" بضغط الظروف أو الصندوق؟
وهل كانت تجربتنا في الخصخصة ناجحة حتي نكررها؟!، الدولة خصخصت معظم ما كانت تملكه من أدوات إنتاجية، إنها تجربة شابها سوء إدارة وانحرافات، وسرقات واختلاسات، لا تنس أن مصر لم تعان اتساع الدخول حتي سنة 1990، ثم بدأت الخصخصة وفجأة وجدنا أصحاب مليارات في بلد فقير، لا يستطيع أحد أن يقنع الناس بتكرار التجربة.
- "دور الدولة في الاقتصاد" هو عنوان أحد كتبك، كيف تري هذا الدور الآن؟
للدولة وظائف أساسية بدأت تختل، أولها الأمن ووضوح الرؤية للمستقبل، والنظام القانوني الموجود، وما هو توجهنا الاقتصادي وعلاقتنا بالخارج، لكن الدولة عليها أيضا واجبات، التعليم والصحة والأمن والقضاء، وعليها أن تضمن الحقوق والملكيات والضوابط الفنية وحقوق العمال، ومواصفات السلع، وعدم الاحتكار، أي تحمي السوق من الاعتداء عليها، ومن انحرافاتها هي نفسها، لأن السوق تخسر إذا لم تحترم حقوق الملكية مثلا، والسوق كثيرا ما تنحرف لمصلحة كبار التجار بإيجاد أزمات واختراقات لعدم سلامة المواطنين أو تلويث البيئة. دور الدولة كبير بشرط إعلان موقفها: هل هي مع أو ضد السوق، وكل التجارب الناجحة للنمو شرقا وغربا كانت الدولة فيها قوية مرهوبة الجانب مسموعة الكلمة وتفرضها علي الجميع.
- نحو 50% من سكان مصر يعيشون حول خط الفقر، تري أي نظام اقتصادي هو الخيار الأنسب؟
في العالم المعاصر يصعب ألا تتجاوب مع ما يجري حولك، فلو كانت اللعبة السائدة كرة القدم لا تستطيع أن تقول سألعب "هوكي"، لا يستطيع أي بلد عزل نفسه عن العالم دون تكلفة عالية، وعندما نقول الاشتراكي جرب وفشل، والرأسمالي جرب وفشل، هذا غير صحيح، لأن الاشتراكية بدأت بفكرة مفكر "ماركس"، أما نظام السوق فقد بدأ ذاتيا، أي أنه ليس وليد فكرة، يتطور وتختلف صورته من بلد لبلد، الدول الإسكندنافية هي أفضل دول الرعاية الاجتماعية وأكثرها ضرائب. هناك عالم يسير وعليك أن تسايره، والأهم هو أن تراعي أوضاع بلدك وأن تتعامل معه، ليس للرأسمالية كتاب مقدس، الاشتراكية لها كتاب مقدس، لا نستبعد حدوث "ردة" أحيانا، فقد تدخلت الدولة الأمريكية في الاقتصاد عقب الأزمة المالية، التجربة والخطأ هما وسيلتا التعلم، دون أن نعيد اختراع العجلة.
- والاستقطاب الحاد بين الإسلام السياسي ودعاة الدولة المدنية؟
حالة مؤسفة، وهي مسئولية الاثنين معا، إنما مسئوليتها الأكبر علي عاتق "الإخوان المسلمين"، ليس لأنهم أكثر خطأ، بل لأنهم في وضع السلطة، ومن الطبيعي أن يعطوا الضمانات الحقيقية التي تطمئن الناس، ودائما ما أقول إن المسئولية علي الأغلبية السياسية، فالأقلية تشعر دوما أنها مهددة، الطرف الأقوي عليه أن يبعث الاطمئنان بتصرفاته وليس بأقواله، وإذا لم ينجح فالمسئولية الأكبر عليه هو. 

عولمة الفقر








عولمة الفقر

-الكتاب: عولمة الفقر
-المؤلف: ميشيل تشوسودوفيسكي
-ترجمة: محمد مستجير مصطفى
-عدد الصفحات: 328 
-الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة/ الإنسانيات-القاهرة-الطبعة: الأولى2012م 

بين أيدينا كتاب بعنوان "عولمة الفقر"، يتناول السياسات الاقتصادية التي ظهرت على مستوى العالم منذ مطلع عقد الثمانينيات من القرن العشرين على يد المؤسسات المالية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان، وأدت إلى شيوع حالة من الفقر وغياب القدرة لدى الاقتصاديات الوطنية في الدول النامية، التي نفذت الأجندة "الإصلاحية" التي "توصي" بها هذه المؤسسات، على تطبيق سياسات اقتصادية وتنموية وطنية، تحقق نموا حقيقيا في الاقتصادات النامية.

وهو ما أطلق عليه مؤلفه مصطلح "عولمة الفقر"، حيث يعبر بدقة عن فكرة "توزيع" الفقر من جانب القوى الكبرى التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، بما يحقق مصالحها. والمؤلف هو عالم الاقتصاد الكندي، ميشيل تشوسودوفيسكي، وهو من مواليد العام 1946م، تخرج في جامعة مانشستر الإنجليزية، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة نورث كارولينا الأميركية، ويعمل أستاذا للاقتصاد بجامعة أوتاوا بكندا، من مؤلفاته "الحرب على الإرهاب"، وصدر في العام 2005م، و"أخطار الحرب النووية"، وصدر في العام 2011م.
كما قام بتحرير عدد من الكتب، من بينها "الأزمة الاقتصادية العالمية" و"صندوق النقد الدولي" و"ليبيا"، ويدير مركز أبحاث العولمة، وله موقع إلكتروني ينشر فيه آراءه الناقدة لسياسات الولايات المتحدة الخارجية، وحلف شمال الأطلنطي "الناتو"، والتضليل الإعلامي الغربي وعدم المساواة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية العالمية.
ويؤكد الكاتب في تقديمه للكتاب على مجموعة من الحقائق، وهي أن السياسات الغربية في المجال الاقتصادي الدولي خلقت الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات النامية التي فرِضت عليها هذه السياسات مثل الاضطربات الاجتماعية والعنصرية وتقويض الحريات وحقوق الإنسان بشكل عام، بما فيها حقوق المرأة.
الفقر ظاهرة عالمية
ويناقش الكتاب في أجزائه الخمسة، التي تضمنت 13 فصلا، الأسباب التي جعلت من الفقر ظاهرة عالمية، ورغم أن الكتاب ألف منذ سنوات، قبل نهاية القرن العشرين، فإنه وضع صورة تنبؤية ثبتت صحتها بنهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، مع زيادة وتيرة حدوث الأزمات الاقتصادية العالمية، كما في جنوب شرق آسيا، وفي الغرب نفسه، حيث وقعت أكثر من أزمة كبرى في الغذاء والحبوب، وكذلك في مجال الطاقة والسلع الأساسية الأخرى.
وتفسر الكثير من الأطر والأفكار التي وضعها المؤلف في كتابه، حالة الإفقار العالمية التي ضربت الكثير من الاقتصاديات النامية، وانهارت بسببها النظم الإنتاجية في العالم النامي، وأدت إلى تصفية المؤسسات الوطنية، تحت مسمى الخصخصة وإعادة الهيكلة، وتحلل البرامج الصحية والتعليمية والخدمية عموما، مع تراجع دور الدولة بسبب "نصائح" و"توصيات" صندوق النقد والبنك الدوليين
ومن بين أبرز الأسباب التي حددها تشوسودوفيسكي لحالة الفقر العالمي البطالة التي ضربت الكثير من الاقتصاديات والمجتمعات، ويرجع الكاتب ذلك إلى التقدم التكنولوجي والعلمي الذي أدى إلى التوفير في الكثير من عناصر الإنتاج، ومن بينها الحاجة إلى العمل البشري والأيدي العاملة، حيث باتت الآلة قادرة على أن تقوم بالكثير من المهام التي كان يقوم بها الإنسان.
العمالة الرخيصة وجه آخر من أوجه أزمة الإفقار العالمية هذه، حيث إن العمالة الرخيصة في الدول الكثيفة السكان، مثل الصين وبنغلاديش، التي يحصل عمالها على رواتب وأجور أقل من غيرهم، دفعت حتى الشركات الأوروبية والأميركية إلى توجيه استثماراتها وصناعاتها إليها، وهو ما رتب حالة من البطالة والفقر، في ظل تراجع مستوى الاستثمارات في الكثير من الدول الأخرى.

ومن بين الأسباب التي ركز عليها أيضا قضية تركيز الثروات، أو عدم العدالة في توزيع الثروة داخل الكثير من المجتمعات، حيث تسيطر فئة ضئيلة من أصحاب رؤوس الأموال والنفوذ السياسي على مقدرات الاقتصاد والمجتمع ككل، في مقابل أشكال مروعة للفقر تسود أكثر من نصف المجتمعات العالمية.

يضاف إلى ذلك هيمنة الاقتصاديات الكبرى على الاقتصاد العالمي، وهو ما فرض سلع ومنتجات الدول الكبرى على أسواق الدول النامية، وأكد الكاتب في هذا السياق أن ما وصفه بـ"دولرة" الأسواق المحلية والعالمية لعب دورا كبيرا في خلق المشكلات التي أصابت الدول النامية.
فهذه الحالة تفرض، على أقل تقدير، على هذه البلدان أن تتحمل تبعات ما يصيب الدولار الأميركي من تقلبات، وكذلك تبعات الهزات التي تطرأ على الاقتصاد الأميركي والاقتصاديات الغربية التي تدور في فلكه، وهي هزات من الضروري حدوثها كل بضع سنوات، وهو ما يعرف في علوم الاقتصاد، بدورات رأس المال.
دور مؤسسات التمويل في صناعة الفقر
أجزاء الكتاب الأربعة من الثاني حتى الخامس، تناولت في مضامينها نماذج حالة شديدة الأهمية في التدليل على الأفكار التي ساقها في الإطار النظري للكتاب، حول دور مؤسسات التمويل الدولي والسياسات الغربية في صناعة الفقر عبر العالم.
فيتناول في الجزء الثاني حالة أفريقيا جنوب الصحراء، منذ تدخل البنك الدولي في السياسات الاقتصادية لهذه البلدان، التي كانت تصنف على أساس أنها بلدان عالم رابع، ويقول: إن سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أدت إلى تدمير القطاع الزراعي، بما في ذلك الثروة الحيوانية لهذه الدول، رغم أنها تعد القطاع الإنتاجي الوحيد القائم فيها، مدللا على ذلك بحالة رواندا، كنموذج للدولة الهشة التي دمر اقتصادها الإنتاجي في المجال الزراعي بسبب ميراث الاستعمار، وتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين.
الجزء الثالث تناول فيه نماذج حالة لجنوب وجنوب شرق آسيا، مركزا على الحالة الهندية وحالة بنغلاديش وفيتنام، حيث وصف الوضع الذي جرى في الهند في الفترة التي كانت توجيهات وسياسات الصندوق والبنك هي الموجهة والمحركة للاقتصاد الهندي، بأنه كان عبارة عن سياسات لسحق الفقراء في الريف والحضر، وأن سياسات القضاء على الفقر، كانت تتم من خلال القضاء على الفقراء عن طريق الموت جوعا، وقرر أن الهند كانت محكومة بشكل غير مباشر من صندوق النقد الدولي.
أما بنغلاديش فقد عانت منذ الانقلاب العسكري الذي وقع هناك في منتصف السبعينيات من سيطرة الغرب على اقتصادياتها، من خلال مؤسسات التمويل الدولية، فتم خصخصة القطاع العام وتراجع دور الدولة، بما أدى إلى تقويض الاقتصاد الريفي، مع إغراق البلاد في الديون، وزيادة اعتماديتها في الغذاء على القمح الأميركي، في ظل تدمير ممنهج لحق بعملية الاكتفاء الذاتي من الغذاء.

ولم يقتصر الأمر على ذلك في هذا البلد الذي يعد من أفقر بلدان العالم، حيث طالت سياسات التكيف الهيكلي المفروضة من صندوق النقد الصناعة المحلية الضعيفة من الأصل، وهو ما رتب آثارا اجتماعية وخيمة.
كذلك الحال في فيتنام، حيث دمّر الاقتصاد الوطني من خلال إبعاد الخصخصة وإبعاد المنتجين المحليين عن سوقهم المحلية، وخنق قنوات التجارة الداخلية مع تدمير ممنهج لأهم قطاعات الأمن الغذائي في هذا البلد الذي يقطنه عشرات الملايين من السكان، وهو زراعة الأرز.
تدمير بنية الاقتصاد الوطنية
الجزء الرابع تناول نماذج حالة من أميركا اللاتينية، وهي البرازيل والبيرو وبوليفيا، وتشابهت مع مثيلاتها في جنوب وجنوب شرق آسيا، بين سياسات الإغراق الممنهج بالديون وتدمير بنية الاقتصادات الوطنية.
وفي السياق السابق، يلاحظ أن الكاتب لم يفصل بين هذه الأوضاع والحالة السياسية القائمة في هذه البلدان، سواء بلدان أميركا اللاتينية، أو النماذج السابقة التي ساقها، في آسيا وأفريقيا وبين هذه الحالة من التبعية التي قادت إلى تدمير الاقتصاديات الوطنية لهذه البلدان، قبل أن تبدأ بعضها، مثل الهند والبرازيل، تجاربها النهضوية التنموية الذاتية.
فوجود أنظمة فاشلة أو مستبدة - بعضها يتاجر في المخدرات كما في بوليفيا في بعض فترات تاريخها ما بعد الاستقلال- سمح للغرب ومؤسساته بالتوغل في هذه البلدان، والسيطرة على اقتصادياتها، وبالتالي على قرارها السياسي، وأنه عندما تولت أنظمة حكم وطنية في هذه البلدان، فإنها سعت -أول ما سعت- إلى فرض نمط من التنمية الذاتية المستقلة الذي لا تعتمد فيه على الخارج، مع تشديد بعض هذه الأنظمة على رفض أي نصائح أو "روشتات" من صندوق النقد أو البنك الدولي أو ما شابههما من أدوات السيطرة والعولمة الأميركية والغربية.
الجزء الخامس تناول حالة الاتحاد السوفياتي السابق ويوغسلافيا السابقة، وفي كلتا الحالتين أدت "الرسملة" القسرية غير الرشيدة، والتدخلات الغربية عموما، إلى إعادة روسيا والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي إلى مصاف دول العالم الثالث، بينما أدت في الحالة اليوغسلافية إلى تفكك يوغسلافيا، وسيادة الفوضى والعنف فيها حتى النصف الثاني من التسعينيات.
وقد أردف تشوسودوفيسكي كتابه بملحقين، الأول بعنوان تزييفات عالمية، يوضح فيه كيف تقوم الأمم المتحدة بتزييف نسب وأرقام الفقر حول العالم، من أجل إخفاء تأثيرات العولمة والسياسات الغربية، والثاني عبارة عن حقائق وأرقام حول النسب الحقيقية للفقر في العالم، بما يوضح وجهات النظر التي نقلها في كتابه.

لعبة قديمة بعمر الإمبراطورية




لعبة قديمة بعمر الإمبراطورية   
إنها العولمة, والتجارات الحرة والاقتصاد الملغوم, ولعبة الأمم التي حيكت بأفكار اقتصاديين ومخبرين ومحققين وسياسيين ومحنكين رسموا خارطة بعمر الإمبراطورية الكونية وعبروا إلى جوهر الوجود بأنامل حريرية مزيفة, هذا ما يستنتجه القارئ من كتاب "ستيفن هيات" الأميركي الذي يعيش في سان فرانسيسكو ويعمل كرئيس لمؤسسة (أسيتيرا) وهي تعاونية نشر لمتخصصين, لا تبغي الربح, واسم الكتاب "لعبة قديمة بعمر الإمبراطورية" يكشف فيه عن العالم الخفي "للقتلة" الاقتصاديين وعن شبكة الفساد المعولم بقلم "قتلة اقتصاديون" مرموقون ومحققون, يسردون الرواية المهولة الصادمة بأكملها.
تقديم الكتاب جاء بقلم "جون بيركنز" الأميركي الذي ألف كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" عام 2004 والذي بقي على رأس قائمة المبيعات التي تنشرها "نيويورك تايمز" أكثر من 25 أسبوعاً والذي بيع منه 500 ألف نسخة في العالم.
كتاب ستيفن هيات الصادر عن شركة المطبوعات في لبنان, يقع في 433 صفحة من الحجم الكبير, ترجمة الدكتور أحمد الصيداوي. وينطوي على اعترافات خطيرة لرجال اقتصاد أطلق عليهم لقب "قتلة" اقتصاديين ومحققين وصحافيين ومن خلال هذه الاعترافات, يكشف عما تدفعه البلدان الفقيرة (375) مليار دولار سنوياً لتفي ديونها. أي عشرين ضعفاً للمساعدة الأجنبية التي تتلقاها وهو ما يسمى ب¯"مشروع مارشل المقلوب", ويتطرق الى التلاعب بأسعار النفط للتحكم بفائض الدولارات المودعة في المصارف الدولية, يتابع مسير المال القذر المتدفق من البلدان الفقيرة الى مصارف تعمل بإدارة مصارف أميركية وعمليات تبييض الأموال والاتجار بالمخدرات, يضع تحت المجهر ما جرى من عمليات غش واحتيال في مصارف (GG1 13) وتغاضي السلطات المصرفية عن ذلك, علماً أن زبائن المصرف من وكالة الاستخبارات الأميركية, أسامة بن لادن, "القاعدة" وشخصيات لها نفوذ كبير على الحزبين الجمهوري والديمقراطي, يضع أمام الرأي العام العالمي وقوع أربعة ملايين ضحية في الكونغو فقط لينعم الغرب بمواقف وحواسيب محمولة رخيصة الثمن, كما يشرح استراتيجية البنك الدولي بتحويل مال الإنماء الى جيوب النخب الفاسدة. ويضيء على مصير نفط العراق الذي تقرر في الغرف السوداء.
يقول جون بيركنز: ان القتلة الاقتصاديين يخدمون نخبة صغيرة من الشركات ذات التأثير الواسع, بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات الرسمية, والتي تبغي دائماً مزيداً من الربح والنفوذ, أي المحافظة على هذه الإمبراطورية وتوسيعها". وفي كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي", روى جون بيركنز قصة رحلته من كونه خادماً لتلك الإمبراطورية, الى داعية لصالح الشعوب المسحوقة والمستغلة, وهنا يربط "بيركنز" خبراته باعترافات وانكشافات جديدة في الكتاب الذي يكشف بدوره عن الناحية المظلمة من العولمة.. فقد أحدث رفع سعر النفط فائضاً من دولارات النفط, أودع في المصارف الدولية, وساعد المصرفيون الشبان المتلهفون, على معاودة تدوير هذا المال الى قروض جديدة تعطى للبلدان النامية, كي تمول مشاريع مريبة. وقد سافر سام غويني عبر الكرة الأرضية بالنيابة عن المصارف الأميركية, من أجل إيقاع بلدان العالم الثالث في "فخ" الاستدانة.
تحتوي فصول الكتاب ال¯ 12 عناوين مفصلة من لعبة القتلة, في عالم يقوم على الجشع والعولمة الملتبسة, حيث ركز أكثر من خبير مثل ستيف بركمان وألين أوغسطين وبروس ريك وجايمس هنري, أنطونيا جوهاز, كاثلين كورن, لوسي كوميسار, أندرو رويل وجايمس ماريوت على أحداث وحروب ومقايضات وتبييض أموال وصناعة الممنوعات وسباقات مسلحة الى الهاوية من أجل السيطرة على مقدرات الدول تحت شعار الديمقراطية المعولمة وكيفية محاربة وتغيير الأنظمة المعولمة للاستغلال, بهذا الصدد قدم الكتاب حججاً من بينها, أن إقامة عالم أفضل من الحاضر ممكنة, اذ التمس أهل النفوذ, النفوذ المطلوب لهذا الغرض في حركة العدالة المعولمة (أي مناهضة عولمة الشركات) ويعطي هذا البرنامج حسن التوجه والاستنفاذ والأمل بالمقدرة على تحطيم سيطرة الإمبراطورية وشبكتها. وفي هذا السياق, تقول كاثلين كورن في جانب من الكتاب: ان الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية, كلف 4 ملايين من الأرواح, خلال السنين العشر الماضية, اذ تنازعت الميليشيات وأمراء الحرب حول موارد البلاد, وقد مولت تلك الفظائع, بطريقة غير مباشرة على الأقل, بواسطة بعض أكبر الشركات الغربية, فهي تنظر الى تلك البلاد كمجرد مصدر رخيص لمعدن "الكولتان" -الجوهري لصنع شبكة الموصلات- وغير ذلك من المعادن, وهنا, ستكشف كاثلين كورن العلاقة المباشرة بين معاناة الشعب الكونغولي والأثمان الرخيصة التي يدفعها الغربيين للهواتف الخلوية والحواسب المحمولة.
أما جايمس ماريوت فقد أورد أنه بحلول العام 2015 ستزود أميركا بنحو 30 في المئة من نفطها المصدر اليها من أفريقيا, وتعمد شركات النفط المتعددة الجنسيات, الى الاستعانة بمزيد من الجيوش الخاصة, لحماية عملياتها هناك, ويقوم سكان دلتا النيجر بحملة للحصول على حصة من ثروة النفط التي تضخها الشركات من تحت أراضيهم. وفي العام 2006, كان نيجل وطسن-كلارك يعمل بصفة موظف أمن في شركة "شل" في نيجيريا, لحماية استغلال النفط خارج الساحل. لقد كان جندياً عند الخطوط الأمامية في شبكة استغلال النفط, لكنه عندما أخذ رهينة خلال الغزو الذي قام به محاربون محليون, وجد نفسه وسط الصراع من أجل نفط نيجيريا.
أما كيفية خطف مخزون النفط العراقي, فيرى كتاب "القتلة" حسب "غريغ متيت" في كتاب ستيفن هيات يقول: "بينما يناضل الشعب العراقي لتحديد مستقبله, وسط الفوضى السياسية والعنف الدموي, يتقرر مصير النفط الذي يمثل الاحتياطيات الاقتصادية الأكثر قيمة, وراء الأبواب الموصدة, فاتفاقيات المشاركة في إنتاج النفط المفروضة على العراق, ستكلف البلاد مئات البلايين من المداخل المفقودة, بينما توجه الأرباح الكبرى الى الشركات الأجنبية, وهنا يكشف "غريغ متيت" القناع عن مؤسسة غريبة غير معروفة تماماً, هي مركز الضريبة والتثمير (ITIC) التي توفر هذه المداخيل".
وأما حكاية البنك الدولي ومسألة المئة بليون دولار, فيروي فصولها ستيف بركمان وكيف تقدم البنك الدولي بستراتيجية انمائية مبنية على قروض تعطى لبلدان العالم الثالث, منذ عقود زمنية, وكان من المفروض بهذه القروض التي بلغت مئات البلايين من الدولارات أن تحدث تقدماً, لكن تلك البرامج لم تستطع الوفاء بوعودها, وبدلاً من حصول التقدم بالبلاد, جمعت النخب الحاكمة ثروات فاحشة, بينما تحمل الفقراء عبء سداد تلك الديون, وهنا يعرض "بركمان" أحد العاملين سابقاً في البنك الدولي بيان محقِق داخلي عن كيفية عمل تلك المكائد لتحويل مال الإنماء الى جيوب النخب الفاسدة وجيوب شركائهم من دول العالم الأول.
كذلك تعرض "ألين أوغسطن" حال الفيليبين والبنك الدولي والسباق الى الهاوية, بحيث أصبحت عبارتا "الإنماء" و"التحديث" كلمتين رمزيتين لجهود الولايات المتحدة الأميركية الآيلة الى دعم حكم الرئيس فرديناند ماركوس, بالتنسيق مع البنك الدولي كوسيلة لتمويل ديكتاتورية "ماركوس" وهناك نحو 800 وثيقة تسربت من وثائق البنك الدولي, تخبر عن كيفية تمويل هذا المصرف للقانون العرفي. وكيف جعل البنك الدولي الفيليبين حالة اختبارية لإستراتيجيته الإنمائية المعدة للتصدير, والمبنية على الشركات المتعددة الجنسيات, وآلت في النهاية الى نتائج كارثية للديمقراطية والإنماء الاقتصادي على السواء.
ويروي بروس ريك كيف أصبحت وكالات تصدير الاعتمادات بكل هدوء, أكبر المؤسسات المالية في العالم, فهي تساند 788 مليار دولار في تجارتها العام 2004, علماً بأن أعمالها سرية وغير منتظمة تنظيماً رسمياً. وتقوم برسالة مفردة رفع مبيعات الشركات المتعددة الجنسيات التابعة لبلدانها, وبهذه الصفة, صارت من أقدر اللاعبين في لعبة "القتلة" الاقتصاديين, اذ أنها تموِل منشآت الطاقة النووية في بلدان لا تستطيع إدارتها, فضلاً عن بيعها المكثف للأسلحة لمناطق تمزقها الصراعات. ويجري تلميع هذه العمليات, كلها بمليارات الدولارات التي تصرف كرشى, وهنا ينظر "بروس ريك" الى عالم هذه الوكالات السري, ويبين الضرر الذي تحدثه في أرجاء العالم.
أما فضيحة الديون الموجبة على البلدان الفقيرة وسراب إسعاف الدين, فيرويها جايمس هنري الذي يفضح قادة مجموعة الدول الثماني الذين أعلنوا بفخر تخصيص 40 مليون دولار لإعادة جدولة الدول المتوجبة على 18 بلداً فقيراً مديناً الى حدٍ كبير في أميركا اللاتينية وأفريقيا, أي ما يساوي أكثر من واحد في المئة بقليل من المال أي 3.2 تريليونات دولار, وهو كامل الدين المتوجب على تلك البلدان. فالمساعدة الفعلية الممنوحة لهذه الديون, لا تعدو كونها جزءاً صغيراً من تلك الديون, حتى أن الشروط والتعهدات المقترنة بالحصول عليها, تجعلها على تواضع مقدارها, لا تستحق هذا العناء من أجل تحصيلها, بوجود المستشفيات والمدارس المقفلة, والأعمال التجارية المحلية المفلسة, والبطالة العالية, وهنا يعطينا جايمس هنري تحليلاً, ويرسم خطوات القيام بحملة فاعلة لإعادة جدولة الديون, من أجل بلدان العالم الثالث المدينة.
وفي موضوع المال "القذر", داخل العالم السري للمصارف, يرى جون كريستنسن أنه سنوياً يتدفق من المال "القذر" ما لا يقل عن 500 مليار دولار أميركي من البلدان الفقيرة الى حسابات المصارف (الأفشور) التي تعمل خارج الساحل, وتديرها مصارف أميركية, بحيث تقزِم مقدار ما تستلمه الشعوب والبلدان من المساعدات الأجنبية. وتراوح مصادر هذا المال من الاحتيال لتفادي الضرائب, وإعادة المال الذي كان قد سُلف لأغراض غير مشروعة وتهريب رؤوس الأموال, الى غسل الأموال والمتاجرة بالمخدرات, وقد كان "جون كريستنسن" مصرفياً يعمل خارج الساحل (أوفشور), فوجد نفسه يتعاطى إدارة هذه الحسابات السرية. وهو يبين كيف ينتزع النظام المصرفي خارج الساحل, أي (الأفشور) المديح من البلدان الأقل قدرة على تقديمه, ويشرح الأسباب التي تجعل هذا الاقتصاد الأسود جوهرة لنخبة الشركات الدولية.
المسهمون في كتاب "القتلة" أزاحوا الستار عن أحداث جرت عبر عدد من البلدان وتبيان المخططات التي يقوم بها "القتلة" الاقتصاديون تحت أقنعة متنوعة, وكل منها ألقى الضوء على بناء تلك الإمبراطورية المخالفة للمبادئ الأميركية المتعلقة بالديمقراطية والمساواة, حيث توالت فصول الكتاب بترتيب اتبع تدفق المال والنفوذ في الإمبراطورية المعولمة. والخارطة الظاهرة على صفحة مقبلة من التاريخ, توضح كيفية بيع القروض لبلدان العالم الثالث, وتدفق الأموال "القذرة" والذي يعود الى سيطرة العالم الأول عن طريق حسابات سرية في المصارف التي تعمل بنظام (الأوفشور) وخيبة نماذج الإنماء القائمة على الديون في تخفيف حدة الفقر, وتراكم جبال من الديون غير المدفوعة, وتقويض الاقتصاديات المحلية بواسطة صندوق النقد الدولي, والتدخل العسكري لتأمين الوصول الى الموارد. وقد أعطى "ستيفن هيات" في "الإمبراطورية المعولمة" نظرة شاملة عن شبكة السيطرة التي تستخدمها شركات العالم الأول ومؤسساتها لحكم الاقتصاد المعولم, أنها فضائح تفصح عن الوجه الآخر لعمليات, ولدولة تحكم العالم باسم الديمقراطية وهي تلبس باليد عصا الترهيب وبالأخرى قفاز الحرير.

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

صعود الأمم.. سباق التقدم وصناعة المستقبل


صعود الأمم.. سباق التقدم وصناعة المستقبل





كتاب صعود الأمم الذي صدر منذ أيام للسفير عمرو مصطفي كمال حلمي الذي يناقش عددا من القضايا الملحة التي تشغل إهتمامات الاقتصاديين والسياسيين في مصر‏,‏ أضعه ضمن قائمة أفضل الكتب العربية الجادة التي صدرت عام‏2012.‏
المؤلف دبلوماسي من الذين أتيحت لهم فرصة العمل في مناخ يشجع علي الدراسة والبحث العلمي والاستزادة بالمعرفة‏,‏ ينتمي الي جيل من الدبلوماسيين الباحثين الأكادميين ممن عاصروا صعود وتطور التكنولوجيا الحديثة وسار في دروب الطرق السريعة للمعلومات‏,‏ وبحث دون حواجز أيديولوجية في مشاكل العالم بعد نهاية الحرب الباردة وإنفراد الولايات المتحدة بالقوة‏,‏ في قضية العولمة وإيجابياتها وسلبياتها وقد شغلت الجانب الأكبر والأوفي من الكتاب‏,‏ ورد علي السؤال الذي يشغل عددا من الباحثين والسياسيين والاقتصاديين‏,‏ وهو‏:‏ لماذا لم تحقق العولمة مستقبل أفضل للعالم وخاصة فقراء العالم الثالث ؟
قضايا مهمة وملحة قدمها كتاب صعود الأمم الذي صدر في‏300‏ صفحة عن مكتبة الآداب خاصة ونحن في بداية الجمهورية الثانية في مصر ونطمح لتحقيق مشروع نهضتنا‏.‏ تحدث الكاتب عن تغيير موازين القوي‏,‏ والدول الصاعدة الجديدة ولماذا حققت هذه الطفرة الهائلة السياسية والاقتصادية‏,‏ ولماذا بقيت دول أخري تنعي تخلفها وفشلها ؟ وتناول في فصل شغل‏75‏ صفحة من الكتاب قضية التعليم كعامل مهم في التنمية الاقتصادية والانتاج‏,‏ وأنماط المعرفة ودعائم الاقتصاد الذي يعتمد عليها ومستقبل التطور التكنولوجي والمناخ الذي يسهم في هذا التطور‏.‏
تناول في فصل آخر إيجابيات وسلبيات العولمة والموجة الحديثة منها وحرية انتقال رءوس الأموال والهجرة الدولية‏,‏ وأسباب فشل العولمة في القضاء علي الفقر ؟ وكيفية إصلاح العولمة‏.‏ أما الفصل الأخير من الكتاب فخصصه المؤلف لموضوع الاقتصاد العالمي والتحديات التي تواجهه في المستقبل‏.‏
السفير عمرو مصطفي كمال حلمي هكذا يحرص علي أن يكتب اسمه الرباعي علي غلاف الكتاب الذي أهداه لروح والده المرحوم الدكتور مصطفي كمال حلمي يبعث لنا عبر صفحات الكتاب‏,‏ برسالة تقول إنه لايليق بمصر وبحضارتها وتاريخها أن تظل سجينة داخل معتقل العالم الثالث‏,‏ يعيش‏40%‏ من سكانها تحت خط الفقر‏,‏ بينما نجحت دول أخري كنا نسبقها في التقدم والتنمية خلال فترة زمنية قصيرة في التحول من مجرد دول فقيرة الي دول صاعدة ومتقدمة‏.‏
يحذر المؤلف في كتابه من التحديات التي سوف تواجه الاقتصاد العالمي في المستقبل‏.‏ وتأتي هذه التحديات نتيجة حدوث زيادة كبيرة في عدد السكان ونقص مستمر في الموارد الاستراتيجية العالمية من مياه وغذاء ومصادر طاقة‏,‏ يضاف الي ذلك طبيعة النزاعات الاقليمية والدولية‏.‏ وأهمية التطور التكنولوجي وثورة المعلومات في مواجهة عدة تحديات‏.‏
التغيرات التي يشهدها العالم تؤكد أن كل المجتمعات يمكنها تحقيق التقدم والارتقاء بمكانتها الدولية‏,‏ اذا ماتوافرت للسياسيين والمثقفين في تلك الدول الرؤية المستنيرة التي تكفل تحقيق هذا الهدف مع قراءة جادة لما يشهده العالم من تطورات‏.‏ لم يعد هناك مستحيلا اذا ما توفرت إرادة العمل والتفاني في الاخلاص للوطن‏,‏ فقد كان ما يوصف بالخيال العلمي قد تحول الي واقع ملموس‏.‏
إنتهاء إحتكار الغرب للتقدم
لم تعد الدول الغربية أو مااصطلح علي تسميته العالم الحر تستأثر الآن بمقاليد العالم السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية بنفس الدرجة التي سادت لقرون طويلة فبعد أن إتصفت الفترة من القرن الخامس عشر الي التاسع عشر‏,‏ بما يعرف بصعود الغرب التي بدأت بصعود أوروبا لتشغل المركز الرئيسي للتحديث والتطوير في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتجارة والثورة الصناعية والزراعية والرأسمالية‏,‏ ثم انتقلت الي الولايات المتحدة مع بداية القرن التاسع عشر التي تحولت تدريجيا الي أكبر قوة في العالم بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي‏,‏ وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ العالم بعد إنهيار الامبراطورية الرومانية‏,‏ لكننا نشهد الآن مرحلة انتقالية بالغة الأهمية في تغير موازين القوي‏.‏ لم تعد الأمور تسير بصيغة الغرب وبقية الدول فقد إنقلب الحال بصعود مجموعة من الدول‏.‏ وتعد تجربة الاقتصاديات البازغة وعلي رأسها مجموعة بريكس التي تتكون من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا‏,‏ واحدة من أهم التحولات في موازين القوي العالمية‏,‏ فهي تمثل بارقة أمل للعديد من الدول النامية التي تتطلع الي بناء مستقبل أفضل‏,‏ مع مراعاة العوامل الآتية‏:‏ تمثل تجربة الصعود السلمي للصين‏,‏ والتي لاتقتصر علي مجرد تحول دولة فقيرة الي دولة تسعي بمعدلات نمو غير مسبوقة الي اللحاق بركب الدول المتقدمة أو بولادة قوي عظمي جديدة ويزيد من خصوصية الصعود الهائل الذي تحققه الصين أنها لاتنتمي الي مايطلق عليه العالم الحر سياسيا أو ثقافيا أو جغرافيا‏.‏ إنها تقدم للعالم نظاما إقتصاديا مستحدثا يتمثل في رأسمالية الدولة الذي بدأ يكتسب في رأي المؤلف‏-‏ مصداقية كبيرة في ضوء ماكشفت عنه الأزمة الاقتصادية العالميةالتي تفجرت عام‏2008‏ من قصور هائل في النظام الرأسمالي الذي تطبقه دول الغرب‏.,‏ لكن رأسمالية الدولة التي حققت نموا كبيرا في الصين نتج عنها في رأيي‏-‏ هذا الثراء الهائل لبعض المستثمرين الصينيين والأجانب علي حساب مصالح العمال الذين فقدوا كثيرا من مكاسبهم في ظل النظام الاشتراكي السابق وقد انعكس ذلك في القلاقل والاضطرابات العمالية التي تشهدها الصين بين حين وآخر وفي تدهور الانتاج الزراعي بعد أن هجر الفلاحون القري الي المدن الصناعية الجديدة‏,‏ مما أسفر أيضا عن إرتفاع أسعار السلع الغذائية‏].‏ أدي نجاح الدول الصاعدة الملحوظ في احتواء تداعيات الأزمة العالمية الي تحولها لتصبح مسئولة عن‏50%‏ من إجمالي نمو الاقتصاد العالمي الذي تحقق خلال الأعوام الماضية‏,‏ وأدي أيضا الي تصاعد ثقل مجموعة العشرين بعد أن ثبت عدم قدرة مجموعة الدول الصناعية السبع علي التحكم في اقتصاديات العالم وقد بدأت المراكز الاقتصادية العالمية ومنها صندوق النقد الدولي في اعتبار مجموعة بريكس القاطرة الدافعة لنمو الاقتصاد العالمي‏.‏
مراكز النمو الاقتصادي والانتاج والابداع والابتكار تنتقل بسرعة الي خارج الدول الغربية‏,‏ وقد بدأ بالتوجه الي القارة الآسيوية‏,‏ بما أكد مصطلح الصعود الآسيوي لكن النمو إنتقل الي عدد آخر من الدول من خارج آسيا‏,‏ سواء في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو منطقة الشرق الأوسط‏,‏ فسلاسل العرض والانتاج والعولمة وتطور الامكانات العلمية‏,‏ فتح المجال أمام عدة دول للمشاركة في الاقتصاد الحديث والي تطوير الأداء وتحقيق التقدم‏,‏ بما يؤكد أن كافة المجتمعات يمكنها تحقيق التقدم والنمو‏.‏ كما أن تحقيق التقدم لايتطلب إستنساخ تجارب الغرب أو التخلي عن الهوية الثقافية أو الدينية للمجتمعات‏.‏
لاعبين جدد من خارج الحكومات
هناك تحول مماثل يتعلق باللاعبين الجدد علي المسرح الدولي‏,‏ فبعد أن استأثرت حكومات الدول بمكانة القوي الفاعلة والوحيدة في العلاقات الدولية‏,‏ ظهرت خلال العقود الأخيرة مجموعة اللاعبين الجدد الذين تتخطي قوتهم وثقلهم في بعض الأحيان أهمية الحكومات ودورها‏,‏ ويدخل ضمن هؤلاء الشركات المتعددة الجنسية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وبعض مؤسسات الاعلام المؤثرة وهو ما يطلق عليهم اللاعبون من خارج الحكومات لذلك أصبح واجبا علي من يديرون السياسة الخارجية للدول أن تكون لديهم المهارات للتعامل مع هذه القوي الجديدة والصاعدة والتي لايمكن تجاهل وجودها أو التقليل من شأنها‏.‏
التعليم الحديث وصناعة المستقبل
يوجه المؤلف في هذا الفصل الأنظار الي ضرورة الاهتمام بالتعليم الحديث الذي يعتمد علي المعرفة‏,‏ كعامل أساسي في النمو والتقدم‏,‏ فاذا كان الاقتصاد الزراعي يعتمد علي الأرض كعامل رئيسي في الانتاج وتعتبر المواد الأولية أهم عوامل الانتاج في الاقتصاد الصناعي‏,‏ ففي الاقتصاد الحديث تعتبر المعرفة أهم عوامل الانتاج‏.‏ هذه المعرفة لايمكن الحصول عليها الا من خلال التعليم الحديث الذي يصاحبه تطوير القيم الثقافية السائدة للتفاعل مع متغيرات العصر‏,‏ دون التخلي عن الهوية التي تتصف بها المجتمعات من الناحية الثقافية أوالدينية أو الجغرافية‏,‏ فاصطلاح اليد العاملة الذي ظل سائدا منذ الثورة الصناعية يتحول تدريجيا الي العقول المبتكرة التي تتولي مهمة التحديث وتحقيق الرفاهية والثروة‏,‏ فيقل الآن الاعتماد علي استخدامات الأيدي أو القوة الجسمانية في الاقتصاد الحديث‏,‏ ويحل مكانها العقول المتميزة وإسهاماتها في ابتكار منتجات جديدة من السلع والخدمات‏,‏ فرأس المال البشري في الاقتصاد الحديث هو نتاج تعليم جيد يسهم في بناء عقول متميزة قادرة علي الابداع والابتكار وإيجاد الثروة‏.‏ وارتفاع جودة التعليم وفقا للمعايير الدولية يدعم فرص تحقيق التطور الاقتصادي من خلال زيادة الانتاج وتحسين بيئة الاستثمار وزيادة الناتج المحلي الاجمالي‏.‏ فالمؤسسات التعليمية من جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث هي التي سوف تحدد شكل الحياة ونوعيتها خلال العقود والقرون المقبلة‏,‏ لذلك فإن نهوض الدول اقتصاديا وعلميا سيتوقف علي مدي تطور التعليم في أربعة مجالات مترابطة‏,‏ وهي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات‏.‏ وهذه التخصصات هي التي تسهم في تطوير رأس المال الفكري والموارد البشرية الضرورية للاقتصاد القائم علي المعرفة‏.‏
التعليم الحديث والمتميز هو الذي يسهم في بناء قواعد الأنشطة الاقتصادية الدافعة للثروة وتطويرها‏,‏ ويقصد بذلك تحديدا التكنولوجيا الحيوية‏,‏ وتكنولوجيا المواد‏,‏ وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات‏,‏ والتكنولوجيا فائقة الصغر المعروفة ب النانو تكنولوجي‏.‏
بدائل للاقتصاد التقليدي
تعارف العالم علي ثلاثة نظم اقتصادية هي‏:‏ الرأسمالية والسوق الحرة‏,‏ والشيوعية‏,‏ والاقتصاد القائم علي إدارة السوق‏,‏ لكن مع سقوط حائط برلين في عام‏1989‏ وانهيار الاتحادج السوفيتي وتفككه عام‏1991‏ فإن بدائل النظم الاقتصادية تقلصت الي مدرستين‏.‏ تدعو الأولي الي مايعرف باستراتيجية توافق واشنطن للتنمية وتسعي الي الدفع بأفكار إقتصاد السوق‏,‏ والتوسع في عمليات الخصخصة‏,‏ والاتجاه الي تحرير التجارة والأسواق المالية‏,‏ وتعزيز دور مؤسسات الأعمال الخاصة‏,‏ وفي نفس الوقت التحرك في إتجاه تقليص دور الحكومات في النشاط الاقتصادي ليقتصر علي مجرد العمل علي استقرار الاقتصاد الكلي‏.‏ والاستقرار المقصود هنا يتركز في العمل علي استقرار الأسعار وخفض التضخم دون القيام بأي جهد لاستقرار العمالة أو تحقيق العدالة الاجتماعية‏.‏ الحكومات مدعوة الي خصخصة كل شئ من مشروعات صناعية وخدمية وحتي مؤسسات الضمان الاجتماعي‏.‏ أما أبرز عيوب هذه الاستراتيجية فهي غياب البعد الانساني والاجتماعي‏,‏ وقد تبنت هذه الاستراتيجية لفترات طويلة مؤسسات التمويل الدولية‏,‏ وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي‏,‏ مما تسبب في إثارة عدة قلاقل سياسية وإجتماعية في الدول التي إتخذت هذه الاستراتيجية‏.‏ لكن الأزمات المالية المتعاقبة والتي بدأت في آسيا في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي أو الأزمة العالمية في عام‏2008‏ كشفت عن مخاطر تهميش دور الحكومات في إدارة النشاط الاقتصادي‏.‏
تدعو المدرسة الثانية التي تؤمن بالاقتصاد القائم علي ادارة الأسواق الي أهمية دور الحكومات في تحقيق التنمية وحماية الفقراء‏,‏ لكن دور الحكومات‏-‏ في رأيهم يجب ألا يتجاوز ايجاد المناخ الذي يكفل ازدهار النشاط الاقتصادي بما يساعد علي إيجاد فرص عمل جديدة‏,‏ مع وضع القوانين التي تضمن سلامة النظام المصرفي وأسواق المال الوطنية ومكافحة الاحتكارات‏,‏ والعمل علي زيادة الاستثمارات في التعليم واحترام حقوق الانسان‏.‏
الصين‏,‏ ورأسمالية الدولة
يري الدكتور عمرو حلمي أن الصين تقدم نظاما إقتصاديا حقق قدرا كبيرا من النجاح يقوم علي رأسمالية الدولة‏,‏ وهو يختلف عن سياسة ترك الأمور دون تدخل لتفاعل قوي السوق‏,‏ وقد تابعت حكومة بكين تجارب التنمية في عدة دول‏,‏ وسلبيات سياسة توافق واشنطن والتي حققت فشلا هائلا في عدة دول خاصة في عدد من دول أمريكا اللاتينية‏,‏ وقامت بعد ذلك بتقييم السياسات الاقتصادية التي إتخذها بوريس يلتسن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتي حققت فشلا ذريعا نتيجة التطبيق السريع للرأسمالية والأخذ بنصائح واشنطن وصندوق النقد‏.‏ ويكتسب ما تطرحه الصين من بديل أهمية في ضوء ماكشفت عنه الأزمة الاقتصادية العالمية التي تفجرت عام‏2008‏ من قصور كبيرفي النظام الرأسمالي المطبق في الغرب‏,‏ والذي يقابله نجاح صيني متواصل‏-‏ رغم خطورة التحديات الداخلية التي أسفرت عنها إرتفاع معدلات الهجرة الداخلية وتردي الأوضاع البيئية في تحقيق معدلات نمو تتراوح بين‏119%‏ طوال العقود الثلاثة الماضية‏,‏ ويعد أعلي معدل للنمو تحققه دولةعلي مر العصور‏.‏ نجحت الصين خلال تلك الفترة في مضاعفة حجم إقتصادها كل ثمانية أعوام‏,‏ فالقيمة الاجمالية لصادراتها عام‏1987‏ تعادل ماتقوم بتصديره الآن في يوم واحد‏.‏
إنطلقت الصين منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي في تجربة فريدة للتنمية‏,‏ وأصبحت الآن تمتلك أكبر رصيد من احتياطي النقد الأجنبي علي مستوي العالم يقدر ب‏8,2‏ تريليون دولار‏,‏ وهو مايفوق قيمة إحتياطي الدولة التالية من النقد الأجنبي وهي اليابان بنسبة‏50%,‏ ويعادل رصيد الصين ثلاثة أمثال إحتياطي النقد الأجنبي لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة‏.‏

الرسالة التي يريد المؤلف أن يبعثها بهذه الدراسة وهذا الجهد الكبير الذي بذله في البحث والتقصي ومتابعة تجارب التنمية حول العالم تقول بصوت عال‏:‏ إنه اذا كانت دول كثيرة قد نجحت في تحقيق معدلات كبيرة من التقدم والنموفي فترة لاتتعدي ثلاثة عقود‏,‏ وتحولت من دول فقيرة الي دول صاعدة‏,‏ فإن ذلك يفتح المجال أمامنا للعمل الجاد للانضمام الي قائمة هذه الدول الصاعدة التي تطور مواردها البشرية والعلمية‏,‏ وتختار النظام الاقتصادي الذي يناسب ظروفها في ضوء رغبة حقيقية وإصرار علي النهوض أو الخروج من مستنقع التخلف الذي غرقنا فيه لعدة عقود بسبب أنظمة الحكم الفاشلة التي فرضت علينا‏.‏