الحكومة تواجه ظروفا
قاسية ولا يمكنها تحقيق مطالب الشعب فورا
المصدر: الأهرام اليومى
|
علي غير عادتي، حاصرته بمكالماتى ثلاثة أشهر، لأجل هذا الحوار، فما زادته إلا
تمنعا. طاردته بشغف طفولي، وحينما أوشكنا علي الاتفاق بادرني بسؤال: "هو أنت
شاطر يعني؟!". قلت: "مِش وِحِش. أَجي إِمتي!"، اتفقنا. في الموعد
المحدد قرعت الجرس، فوجئت به يفتح الباب بنفسه، مرتديا رداء بسيطا، ممسكا
بـ"سيجار" فاخر. أخذنا بأطراف الحديث، فأيقنت أن المشقة معه لم تكن
عبثا. المفكر الاقتصادي الدكتور حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء وزير المالية
السابق، رجل يهوي قول الأمور عارية بلا مساحيق تجميل. أبحر عميقا في أوجاع
الاقتصاد المصري، التي تلتهب لها العواطف ويكاد يغيب عنها الرشد، محذرا الحكومة
والشعب من أن الانغماس في مجرد "إطفاء الحرائق المشتعلة"، كمن يطلق النار
علي قدميه. طرح الببلاوي رؤية للخلاص والتقدم، تفتح كوة للمستقبل، تردم الأوهام
والمزايدات، مذكرا بحاجتنا إلي "تشرشل" في زمن الحروب التي نحياها علي
أكثر من مستوي، خاصة أن النمو الحقيقي الوحيد عندنا هو في زيادة النسل.!
- توليتم مناصب مرموقة دوليا ومحليا، من واقع خبرتكم هل الاقتصاد المصري في محنة لافكاك منها؟
أري أنه يمر بظروف صعبة، وليس هذا جديدا، مصر في ظروفها العادية لديها مشكلات كبيرة وتحاول بناء اقتصاد قوي، وجاءت الثورة فعطلت بعض الموارد وزادت الصعوبات الاقتصادية علي البلد.
- لكنك ذكرت أننا بحاجة إلي "تشرشل" جديد، فهل نحن في "وضع حرب" علي نحو ما كانت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية؟
لسنا في وضع حرب، لكنه "أقرب إلي الحرب"، لذا لابد أن يُجند الناس لتمر هذه المرحلة، والذي يجندهم هو الإحساس بالخطر، وإذا تم ذلك سنحقق نصرا كبيرا. تشرشل تولي قيادة بريطانيا بعد "تشمبرلين" في أثناء الحرب، عندها لم يدغدغ أحلام شعبه، إنما قال: "أعدكم بالدم والعرق والدموع، وفي النهاية النصر"، وما تواجهه مصر حاليا يشبه ظروف الحرب، وإذا استمرت هذه الأوضاع سندفع ثمنا باهظا في المستقبل، ولو مرت بسلام سيكون أفضل بكثير من الماضي، هذا أوان العزم، إذا توافرت الثقة.
- ما الذي يمنع حدوث ذلك؟
الوقت صعب والناس يطالبون بأشياء كثيرة حرموا منها ظلما وقهرا وفسادا، عبر سنوات طويلة، وهذا من حقهم، لكن البلد يعاني الآن في ظل غياب الاستقرار. الاقتصاد كله يقوم علي "مفهوم التكلفة"، أي أنه لا توجد منح، كل شيء له ثمن، تدفع الثمن أولا ثم تحصل علي السلعة، تزرع قبل أن تحصد، الناس حاليا ينتظرون الثمرة قبل العمل، هذا لن يكون، ليس هناك وجبات مجانية في الاقتصاد، كل واحد يأخذ ما يستحقه نتيجة جهده، المعضلة أن شعبنا يعاني منذ فترة طويلة،.
- التنبؤ ركن أساسي من أركان علم الاقتصاد، فمتي يفلت المصريون من براثن الأزمة الاقتصادية المستحكمة؟
لابد من قدر من الوضوح والشفافية مع الناس في كل ما يجري، نحتاج لبناء الثقة، إن غياب اليقين بالنسبة للمستقبل يمنعني من اتخاذ "قرار". لا أتحدث عن اليقين الكامل، كل قرار به قدر من المخاطرة، لكن القرارات الاقتصادية تستلزم الوضوح.
- كأنك تلمح لورطة الحكومة الحالية والاتهامات الموجهة إليها بالارتباك والعجز؟
الحكومة تواجه وضعا قاسيا، وهناك توقعات لدي الناس لا يمكن تحقيقها عاجلا، وأي حكومة مكانها كانت ستواجه ذلك، المهم أن تقول للناس وتصارحهم بالحقائق.
- البعض يري أن الحكومة تتبع سياسات الحزب الوطني نفسها؟
أظن أن مشكلة الحكومة ليست في الأساليب القديمة، مشكلتها أنه لم يمض عليها سوي أسابيع قليلة، ومن حقها أن تحظي بالفرصة كاملة للعمل. المطلوب أن تقدم الحكومة - دون تأخير - رؤية وسياسات، نعم لديها بعض العذر في عدم التسرع بطرح وعود غير قابلة للتنفيذ، فلابد من الحرص، لكن الناس لن يستطيعوا الانتظار كثيرا.
- عفوا، أحتاج هنا إلي توضيح أكبر!
أظهر بعض الضيق، وهو يقول: الناس لن يقبلوا دفع الثمن والتضحيات المطلوبة دون أن يعرفوا ماذا ستفعل الحكومة إزاء مشكلاتهم، وهذا يتطلب إجراءات عاجلة في مسائل لا تحتمل الانتظار، الحكومة لا يجوز أن يتوقف دورها علي إطفاء حرائق هنا أو هناك فقط، إنما تقديم رؤية واضحة للمستقبل بعيدة المدي في القضايا الأساسية التي تهم البلد،
- يتابع الشعب المصري، الجدل حول قرض صندوق النقد، كيف تقرأ هذا الجدل؟
هنا قضية مبدئية: القرض إحدي أدوات التمويل المهمة، ويمكن أن تكون مفيدة أو غير مفيدة، يتوقف هذا علي مدي حاجتك إليه، ومدي ملاءمته لحالتك. نحن نتكلم عن القرض وكأنه شيء معيب، وكأن اقتراض الحكومة من الداخل أو قبول وديعة من قطر والسعودية ليس عيبا.
- بتحديد أكثر ما مدي حاجتنا لقرض الصندوق وتجاوب القوي السياسية معه؟
القرض إحدي أدوات السياسة المالية، يفيد المقرض والمقترض، وليس صحيحا أن الأخير يستجدي، فلو لم تذهب للبائع لبارت سلعته ومات جوعا، لذا أرجو الامتناع عن إدخال "أحكام أخلاقية"، مختلف عليها بين الفقهاء في هذا الأمر، وأن تحسم القوي المختلفة أمرها: القرض مقبول أم لا؟!
- الشروط أو القيود التي قد يفرضها الصندوق، هل تحصر خياراتنا بين "المُر والأَمَر"؟
من حق الدائن أن يسأل المدين عما سيفعله بأمواله، حتي يطمئن إلى استرجاعها في نهاية المطاف، ومن حقك أن ترفض شروط أي قرض أيا كان إذا كانت لاتتناسب مع مصلحتك.
- لم تقل ليّ رأيك الشخصي في هذا القرض ؟
نحن محتاجون للخارج، والخارج له مصالح معنا، نعاني مشكلات يمكن أن نحصل علي القرض ونزيل المشكلات، وهذا دور الحكومة، أي وضع خطة للإصلاح وتنفيذها، إذا ذهبت للطبيب ولم يكتب لك روشتة فلن تذهب له ثانية، وإذا كان البرنامج المقترح لعلاج اختلالات موجودة، فلابد أن نقبله ونرحب به. مصر لا يمكنها أن تحقق تقدما إلا بالتفاعل مع العالم الخارجي، اليابان، الاتحاد السوفيتي السابق، والنمور الآسيوية، والصين وحتي الهند، كلها دول حققت قفزتها الكبري باستخدام الخارج، بفتح الأسواق للاستثمارات - باستثناء الاتحاد السوفيتي - وجلب التكنولوجيا، وكلها أخذت سياسة التصنيع: لا تصدق أن هناك طريقا للتقدم بعيدا عن الصناعة.
- الصناعة وحدها؟
بالطبع ليست وحدها لكنها الأساس، بدليل تجربة هذه الدول، قامت بها صناعات قوية، انبثقت من استراتيجية واضحة: دولة قوية، سياسة تصنيعية، الأخذ باقتصاد السوق والانفتاح علي الخارج. نحتاج إلي استثمارات مستمرة بنحو 30% من الناتج الإجمالي، لمدة 30 سنة متصلة، إذا نظرنا لتجارب النمور الآسيوية، مثلا.
- هل تتمكن مصر من ذلك في ظل معدلات الاستثمار المتدنية حاليا؟
معدل الادخار والاستثمار 17% أي نحتاج استثمارات خارجية بنحو 15%، لنحو 30 عاما، يقال إنه لابد من زيادة المدخرات المحلية، صحيح، لكن قدرتنا علي زيادة المدخرات محدودة حاليا. فالدعم مثلا استثمار سلبي يتيح لمتلقيه أن يستهلك أكثر من دخله، ويستحوذ علي 33% من حجم الموازنة، والمشكلة الأكبر أن حجم الدعم يتضاعف، دون أن يذهب لمستحقيه، إنه قضية تحتاج إعادة نظر ورؤية أوضح.
- رفعت ثورة يناير "العدالة الاجتماعية" شعارا لها، لكن الواضح أننا لم نقترب كثيرا من هذا الحلم؟!
لا يمكن أن تقوم العدالة الاجتماعية في جو من الفقر وعدم الإنتاج، وهي مرتبطة بعدالة التوزيع، ما تنتج وما لم تنتج، العدالة لا يمكن تحقيقها بشكل مطلق، علي الأقل يمكن الاقتراب منها.
- فوائد الديون تلتهم 230 مليار جنيه سنويا، ما العمل أمام هذا الغول؟
الدين الخارجي في الحدود المعقولة، الداخلي أكبر ويمثل صعوبة وخطورة، ويلزم البدء في إعادة الانضباط للموازنة بقدر الإمكان.
- بماذا تفسر، إحجام الدول العربية ذات الفوائض المالية المرعبة عن مد يد العون لمصر في هذا الظرف، برغم أن القاهرة قدمت الكثير لها ولغيرها سابقا؟
إن مصر قامت بواجبها أما أن تمن فهذا سوء خلق وتصرف، كما الدول العربية ساعدت مصر في أوقات كثيرة، منذ 1967 وحرب أكتوبر وبعد تحرير الكويت، وخلال 30 عاما كانت تحويلات العاملين المصريين في البلاد العربية دعما للاقتصاد المصري.
- أقاطعه: أتحدث عما كان يجب فعله في لحظة العسرة المصرية؟
بالطبع هم ليسوا ملائكة، ولسنا ملائكة، الآن لم يأت الدعم كما نحب فاتجهنا للأسلوب الخاطئ. علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا نحن غير قادرين علي جذب أموالهم، لابد أن أحوالنا لا تشعرهم، هم أو غيرهم، بالاطمئنان.
- في اتجاه مناقض هناك تخوف واضح من الاستثمارات القطرية وطبيعتها التي يراها البعض احتكارية في قطاعات حساسة، استثمارية أو خدمية؟
ليس هناك خوف محدد من دولة قطر، والاحتكار ضار سواء قطريا أو فرنسيا أو هنديا، أو مصريا، وينبغي وضع قواعد لانضباط السوق، المهم قواعد الانضباط. قطر ليست قوة اقتصادية أو عسكرية مخيفة، علينا ألا نشعر بالريبة والخوف، نضبط أمور بلدنا ونكون فعلا قادرين علي تكوين دولتنا القوية.
- كيف تري الدعوات حاليا للجوء للصكوك الإسلامية كأداة تمويل؟
الصكوك الإسلامية لا تختلف في حقيقتها عن الأدوات المالية الموجودة، وهي نوع من الحيل الشرعية لإلباس عقد قرض يدفع الآن ويسدد بعد فترة، ليظهر وكأنه ليس قرضا، إنما بيع وشراء، وميزته طمأنة عديدين أنهم يتعاملون معاملات مطابقة للشرع، وإن كنت لا أري شخصيا - في القرض مخالفة أو ربا.
- هل يعود برنامج "الخصخصة" بضغط الظروف أو الصندوق؟
وهل كانت تجربتنا في الخصخصة ناجحة حتي نكررها؟!، الدولة خصخصت معظم ما كانت تملكه من أدوات إنتاجية، إنها تجربة شابها سوء إدارة وانحرافات، وسرقات واختلاسات، لا تنس أن مصر لم تعان اتساع الدخول حتي سنة 1990، ثم بدأت الخصخصة وفجأة وجدنا أصحاب مليارات في بلد فقير، لا يستطيع أحد أن يقنع الناس بتكرار التجربة.
- "دور الدولة في الاقتصاد" هو عنوان أحد كتبك، كيف تري هذا الدور الآن؟
للدولة وظائف أساسية بدأت تختل، أولها الأمن ووضوح الرؤية للمستقبل، والنظام القانوني الموجود، وما هو توجهنا الاقتصادي وعلاقتنا بالخارج، لكن الدولة عليها أيضا واجبات، التعليم والصحة والأمن والقضاء، وعليها أن تضمن الحقوق والملكيات والضوابط الفنية وحقوق العمال، ومواصفات السلع، وعدم الاحتكار، أي تحمي السوق من الاعتداء عليها، ومن انحرافاتها هي نفسها، لأن السوق تخسر إذا لم تحترم حقوق الملكية مثلا، والسوق كثيرا ما تنحرف لمصلحة كبار التجار بإيجاد أزمات واختراقات لعدم سلامة المواطنين أو تلويث البيئة. دور الدولة كبير بشرط إعلان موقفها: هل هي مع أو ضد السوق، وكل التجارب الناجحة للنمو شرقا وغربا كانت الدولة فيها قوية مرهوبة الجانب مسموعة الكلمة وتفرضها علي الجميع.
- نحو 50% من سكان مصر يعيشون حول خط الفقر، تري أي نظام اقتصادي هو الخيار الأنسب؟
في العالم المعاصر يصعب ألا تتجاوب مع ما يجري حولك، فلو كانت اللعبة السائدة كرة القدم لا تستطيع أن تقول سألعب "هوكي"، لا يستطيع أي بلد عزل نفسه عن العالم دون تكلفة عالية، وعندما نقول الاشتراكي جرب وفشل، والرأسمالي جرب وفشل، هذا غير صحيح، لأن الاشتراكية بدأت بفكرة مفكر "ماركس"، أما نظام السوق فقد بدأ ذاتيا، أي أنه ليس وليد فكرة، يتطور وتختلف صورته من بلد لبلد، الدول الإسكندنافية هي أفضل دول الرعاية الاجتماعية وأكثرها ضرائب. هناك عالم يسير وعليك أن تسايره، والأهم هو أن تراعي أوضاع بلدك وأن تتعامل معه، ليس للرأسمالية كتاب مقدس، الاشتراكية لها كتاب مقدس، لا نستبعد حدوث "ردة" أحيانا، فقد تدخلت الدولة الأمريكية في الاقتصاد عقب الأزمة المالية، التجربة والخطأ هما وسيلتا التعلم، دون أن نعيد اختراع العجلة.
- والاستقطاب الحاد بين الإسلام السياسي ودعاة الدولة المدنية؟
حالة مؤسفة، وهي مسئولية الاثنين معا، إنما مسئوليتها الأكبر علي عاتق "الإخوان المسلمين"، ليس لأنهم أكثر خطأ، بل لأنهم في وضع السلطة، ومن الطبيعي أن يعطوا الضمانات الحقيقية التي تطمئن الناس، ودائما ما أقول إن المسئولية علي الأغلبية السياسية، فالأقلية تشعر دوما أنها مهددة، الطرف الأقوي عليه أن يبعث الاطمئنان بتصرفاته وليس بأقواله، وإذا لم ينجح فالمسئولية الأكبر عليه هو.
- توليتم مناصب مرموقة دوليا ومحليا، من واقع خبرتكم هل الاقتصاد المصري في محنة لافكاك منها؟
أري أنه يمر بظروف صعبة، وليس هذا جديدا، مصر في ظروفها العادية لديها مشكلات كبيرة وتحاول بناء اقتصاد قوي، وجاءت الثورة فعطلت بعض الموارد وزادت الصعوبات الاقتصادية علي البلد.
- لكنك ذكرت أننا بحاجة إلي "تشرشل" جديد، فهل نحن في "وضع حرب" علي نحو ما كانت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية؟
لسنا في وضع حرب، لكنه "أقرب إلي الحرب"، لذا لابد أن يُجند الناس لتمر هذه المرحلة، والذي يجندهم هو الإحساس بالخطر، وإذا تم ذلك سنحقق نصرا كبيرا. تشرشل تولي قيادة بريطانيا بعد "تشمبرلين" في أثناء الحرب، عندها لم يدغدغ أحلام شعبه، إنما قال: "أعدكم بالدم والعرق والدموع، وفي النهاية النصر"، وما تواجهه مصر حاليا يشبه ظروف الحرب، وإذا استمرت هذه الأوضاع سندفع ثمنا باهظا في المستقبل، ولو مرت بسلام سيكون أفضل بكثير من الماضي، هذا أوان العزم، إذا توافرت الثقة.
- ما الذي يمنع حدوث ذلك؟
الوقت صعب والناس يطالبون بأشياء كثيرة حرموا منها ظلما وقهرا وفسادا، عبر سنوات طويلة، وهذا من حقهم، لكن البلد يعاني الآن في ظل غياب الاستقرار. الاقتصاد كله يقوم علي "مفهوم التكلفة"، أي أنه لا توجد منح، كل شيء له ثمن، تدفع الثمن أولا ثم تحصل علي السلعة، تزرع قبل أن تحصد، الناس حاليا ينتظرون الثمرة قبل العمل، هذا لن يكون، ليس هناك وجبات مجانية في الاقتصاد، كل واحد يأخذ ما يستحقه نتيجة جهده، المعضلة أن شعبنا يعاني منذ فترة طويلة،.
- التنبؤ ركن أساسي من أركان علم الاقتصاد، فمتي يفلت المصريون من براثن الأزمة الاقتصادية المستحكمة؟
لابد من قدر من الوضوح والشفافية مع الناس في كل ما يجري، نحتاج لبناء الثقة، إن غياب اليقين بالنسبة للمستقبل يمنعني من اتخاذ "قرار". لا أتحدث عن اليقين الكامل، كل قرار به قدر من المخاطرة، لكن القرارات الاقتصادية تستلزم الوضوح.
- كأنك تلمح لورطة الحكومة الحالية والاتهامات الموجهة إليها بالارتباك والعجز؟
الحكومة تواجه وضعا قاسيا، وهناك توقعات لدي الناس لا يمكن تحقيقها عاجلا، وأي حكومة مكانها كانت ستواجه ذلك، المهم أن تقول للناس وتصارحهم بالحقائق.
- البعض يري أن الحكومة تتبع سياسات الحزب الوطني نفسها؟
أظن أن مشكلة الحكومة ليست في الأساليب القديمة، مشكلتها أنه لم يمض عليها سوي أسابيع قليلة، ومن حقها أن تحظي بالفرصة كاملة للعمل. المطلوب أن تقدم الحكومة - دون تأخير - رؤية وسياسات، نعم لديها بعض العذر في عدم التسرع بطرح وعود غير قابلة للتنفيذ، فلابد من الحرص، لكن الناس لن يستطيعوا الانتظار كثيرا.
- عفوا، أحتاج هنا إلي توضيح أكبر!
أظهر بعض الضيق، وهو يقول: الناس لن يقبلوا دفع الثمن والتضحيات المطلوبة دون أن يعرفوا ماذا ستفعل الحكومة إزاء مشكلاتهم، وهذا يتطلب إجراءات عاجلة في مسائل لا تحتمل الانتظار، الحكومة لا يجوز أن يتوقف دورها علي إطفاء حرائق هنا أو هناك فقط، إنما تقديم رؤية واضحة للمستقبل بعيدة المدي في القضايا الأساسية التي تهم البلد،
- يتابع الشعب المصري، الجدل حول قرض صندوق النقد، كيف تقرأ هذا الجدل؟
هنا قضية مبدئية: القرض إحدي أدوات التمويل المهمة، ويمكن أن تكون مفيدة أو غير مفيدة، يتوقف هذا علي مدي حاجتك إليه، ومدي ملاءمته لحالتك. نحن نتكلم عن القرض وكأنه شيء معيب، وكأن اقتراض الحكومة من الداخل أو قبول وديعة من قطر والسعودية ليس عيبا.
- بتحديد أكثر ما مدي حاجتنا لقرض الصندوق وتجاوب القوي السياسية معه؟
القرض إحدي أدوات السياسة المالية، يفيد المقرض والمقترض، وليس صحيحا أن الأخير يستجدي، فلو لم تذهب للبائع لبارت سلعته ومات جوعا، لذا أرجو الامتناع عن إدخال "أحكام أخلاقية"، مختلف عليها بين الفقهاء في هذا الأمر، وأن تحسم القوي المختلفة أمرها: القرض مقبول أم لا؟!
- الشروط أو القيود التي قد يفرضها الصندوق، هل تحصر خياراتنا بين "المُر والأَمَر"؟
من حق الدائن أن يسأل المدين عما سيفعله بأمواله، حتي يطمئن إلى استرجاعها في نهاية المطاف، ومن حقك أن ترفض شروط أي قرض أيا كان إذا كانت لاتتناسب مع مصلحتك.
- لم تقل ليّ رأيك الشخصي في هذا القرض ؟
نحن محتاجون للخارج، والخارج له مصالح معنا، نعاني مشكلات يمكن أن نحصل علي القرض ونزيل المشكلات، وهذا دور الحكومة، أي وضع خطة للإصلاح وتنفيذها، إذا ذهبت للطبيب ولم يكتب لك روشتة فلن تذهب له ثانية، وإذا كان البرنامج المقترح لعلاج اختلالات موجودة، فلابد أن نقبله ونرحب به. مصر لا يمكنها أن تحقق تقدما إلا بالتفاعل مع العالم الخارجي، اليابان، الاتحاد السوفيتي السابق، والنمور الآسيوية، والصين وحتي الهند، كلها دول حققت قفزتها الكبري باستخدام الخارج، بفتح الأسواق للاستثمارات - باستثناء الاتحاد السوفيتي - وجلب التكنولوجيا، وكلها أخذت سياسة التصنيع: لا تصدق أن هناك طريقا للتقدم بعيدا عن الصناعة.
- الصناعة وحدها؟
بالطبع ليست وحدها لكنها الأساس، بدليل تجربة هذه الدول، قامت بها صناعات قوية، انبثقت من استراتيجية واضحة: دولة قوية، سياسة تصنيعية، الأخذ باقتصاد السوق والانفتاح علي الخارج. نحتاج إلي استثمارات مستمرة بنحو 30% من الناتج الإجمالي، لمدة 30 سنة متصلة، إذا نظرنا لتجارب النمور الآسيوية، مثلا.
- هل تتمكن مصر من ذلك في ظل معدلات الاستثمار المتدنية حاليا؟
معدل الادخار والاستثمار 17% أي نحتاج استثمارات خارجية بنحو 15%، لنحو 30 عاما، يقال إنه لابد من زيادة المدخرات المحلية، صحيح، لكن قدرتنا علي زيادة المدخرات محدودة حاليا. فالدعم مثلا استثمار سلبي يتيح لمتلقيه أن يستهلك أكثر من دخله، ويستحوذ علي 33% من حجم الموازنة، والمشكلة الأكبر أن حجم الدعم يتضاعف، دون أن يذهب لمستحقيه، إنه قضية تحتاج إعادة نظر ورؤية أوضح.
- رفعت ثورة يناير "العدالة الاجتماعية" شعارا لها، لكن الواضح أننا لم نقترب كثيرا من هذا الحلم؟!
لا يمكن أن تقوم العدالة الاجتماعية في جو من الفقر وعدم الإنتاج، وهي مرتبطة بعدالة التوزيع، ما تنتج وما لم تنتج، العدالة لا يمكن تحقيقها بشكل مطلق، علي الأقل يمكن الاقتراب منها.
- فوائد الديون تلتهم 230 مليار جنيه سنويا، ما العمل أمام هذا الغول؟
الدين الخارجي في الحدود المعقولة، الداخلي أكبر ويمثل صعوبة وخطورة، ويلزم البدء في إعادة الانضباط للموازنة بقدر الإمكان.
- بماذا تفسر، إحجام الدول العربية ذات الفوائض المالية المرعبة عن مد يد العون لمصر في هذا الظرف، برغم أن القاهرة قدمت الكثير لها ولغيرها سابقا؟
إن مصر قامت بواجبها أما أن تمن فهذا سوء خلق وتصرف، كما الدول العربية ساعدت مصر في أوقات كثيرة، منذ 1967 وحرب أكتوبر وبعد تحرير الكويت، وخلال 30 عاما كانت تحويلات العاملين المصريين في البلاد العربية دعما للاقتصاد المصري.
- أقاطعه: أتحدث عما كان يجب فعله في لحظة العسرة المصرية؟
بالطبع هم ليسوا ملائكة، ولسنا ملائكة، الآن لم يأت الدعم كما نحب فاتجهنا للأسلوب الخاطئ. علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا نحن غير قادرين علي جذب أموالهم، لابد أن أحوالنا لا تشعرهم، هم أو غيرهم، بالاطمئنان.
- في اتجاه مناقض هناك تخوف واضح من الاستثمارات القطرية وطبيعتها التي يراها البعض احتكارية في قطاعات حساسة، استثمارية أو خدمية؟
ليس هناك خوف محدد من دولة قطر، والاحتكار ضار سواء قطريا أو فرنسيا أو هنديا، أو مصريا، وينبغي وضع قواعد لانضباط السوق، المهم قواعد الانضباط. قطر ليست قوة اقتصادية أو عسكرية مخيفة، علينا ألا نشعر بالريبة والخوف، نضبط أمور بلدنا ونكون فعلا قادرين علي تكوين دولتنا القوية.
- كيف تري الدعوات حاليا للجوء للصكوك الإسلامية كأداة تمويل؟
الصكوك الإسلامية لا تختلف في حقيقتها عن الأدوات المالية الموجودة، وهي نوع من الحيل الشرعية لإلباس عقد قرض يدفع الآن ويسدد بعد فترة، ليظهر وكأنه ليس قرضا، إنما بيع وشراء، وميزته طمأنة عديدين أنهم يتعاملون معاملات مطابقة للشرع، وإن كنت لا أري شخصيا - في القرض مخالفة أو ربا.
- هل يعود برنامج "الخصخصة" بضغط الظروف أو الصندوق؟
وهل كانت تجربتنا في الخصخصة ناجحة حتي نكررها؟!، الدولة خصخصت معظم ما كانت تملكه من أدوات إنتاجية، إنها تجربة شابها سوء إدارة وانحرافات، وسرقات واختلاسات، لا تنس أن مصر لم تعان اتساع الدخول حتي سنة 1990، ثم بدأت الخصخصة وفجأة وجدنا أصحاب مليارات في بلد فقير، لا يستطيع أحد أن يقنع الناس بتكرار التجربة.
- "دور الدولة في الاقتصاد" هو عنوان أحد كتبك، كيف تري هذا الدور الآن؟
للدولة وظائف أساسية بدأت تختل، أولها الأمن ووضوح الرؤية للمستقبل، والنظام القانوني الموجود، وما هو توجهنا الاقتصادي وعلاقتنا بالخارج، لكن الدولة عليها أيضا واجبات، التعليم والصحة والأمن والقضاء، وعليها أن تضمن الحقوق والملكيات والضوابط الفنية وحقوق العمال، ومواصفات السلع، وعدم الاحتكار، أي تحمي السوق من الاعتداء عليها، ومن انحرافاتها هي نفسها، لأن السوق تخسر إذا لم تحترم حقوق الملكية مثلا، والسوق كثيرا ما تنحرف لمصلحة كبار التجار بإيجاد أزمات واختراقات لعدم سلامة المواطنين أو تلويث البيئة. دور الدولة كبير بشرط إعلان موقفها: هل هي مع أو ضد السوق، وكل التجارب الناجحة للنمو شرقا وغربا كانت الدولة فيها قوية مرهوبة الجانب مسموعة الكلمة وتفرضها علي الجميع.
- نحو 50% من سكان مصر يعيشون حول خط الفقر، تري أي نظام اقتصادي هو الخيار الأنسب؟
في العالم المعاصر يصعب ألا تتجاوب مع ما يجري حولك، فلو كانت اللعبة السائدة كرة القدم لا تستطيع أن تقول سألعب "هوكي"، لا يستطيع أي بلد عزل نفسه عن العالم دون تكلفة عالية، وعندما نقول الاشتراكي جرب وفشل، والرأسمالي جرب وفشل، هذا غير صحيح، لأن الاشتراكية بدأت بفكرة مفكر "ماركس"، أما نظام السوق فقد بدأ ذاتيا، أي أنه ليس وليد فكرة، يتطور وتختلف صورته من بلد لبلد، الدول الإسكندنافية هي أفضل دول الرعاية الاجتماعية وأكثرها ضرائب. هناك عالم يسير وعليك أن تسايره، والأهم هو أن تراعي أوضاع بلدك وأن تتعامل معه، ليس للرأسمالية كتاب مقدس، الاشتراكية لها كتاب مقدس، لا نستبعد حدوث "ردة" أحيانا، فقد تدخلت الدولة الأمريكية في الاقتصاد عقب الأزمة المالية، التجربة والخطأ هما وسيلتا التعلم، دون أن نعيد اختراع العجلة.
- والاستقطاب الحاد بين الإسلام السياسي ودعاة الدولة المدنية؟
حالة مؤسفة، وهي مسئولية الاثنين معا، إنما مسئوليتها الأكبر علي عاتق "الإخوان المسلمين"، ليس لأنهم أكثر خطأ، بل لأنهم في وضع السلطة، ومن الطبيعي أن يعطوا الضمانات الحقيقية التي تطمئن الناس، ودائما ما أقول إن المسئولية علي الأغلبية السياسية، فالأقلية تشعر دوما أنها مهددة، الطرف الأقوي عليه أن يبعث الاطمئنان بتصرفاته وليس بأقواله، وإذا لم ينجح فالمسئولية الأكبر عليه هو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق