الثلاثاء، 19 يونيو 2012

كتاب أرض الميعاد.. التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة




أياً كان حزبهم السياسي، ينتمي القادة الأمريكيون بشكل عام إلى إحدى فلسفتين اقتصاديتين متنافستين، إحداهما «الجيفرسونية» المؤيدة لحكومة صغيرة، التي تمقت الضخامة وتعتقد أن الازدهار يأتي من المنافسة بين رجال الأعمال المستقلين والمزارعين والمنتجين الآخرين، والأخرى «الأجندة الهاميلتونية»، التي تؤمن بأن الدول القوية الكبيرة تحتاج إلى مؤسسات بالدرجة نفسها من القوة والكبر، وأكثر هذه المؤسسات أهمية هي الحكومة الفيدرالية، التي تعمل كشريك ضروري للمؤسسات الخاصة، في بناء الطرق والمدارس، وضمان القروض وتمويل الأبحاث العلمية، والأمور التي لن تقوم بها الشركات الفردية.

واليوم، بالطبع ينتمي الجمهوريون إلى الجيفرسونية والديمقراطيون إلى الهاميلتونية، لكن الأمر لم يكن دائماً كذلك، ومن أتباع الأولى أندرو جاكسون، وزعماء الفكر الاتحادي ووليام جيننغس بريان ولويس برانديز وباري غولدووتر ورونالد ريغان، وأما الفلسفة الهاميلتونية فيتبعها جورج واشنطن وهنري كلاي وأبرهام لينكولن ووليام ماكينلي، إلى جانب كل من روزفيلت ودوايت آيزنهاور.

ويستخدم كتاب أرض الميعاد لمؤلفه ميشيل ليند هذا الانقسام لطرح تاريخ اقتصادي متفائل للولايات المتحدة الأمريكية، ويقدم مادة غنية بالتفاصيل، أكثر من كونها مفاجئة، ويتركز موضوعها على ما يعتقد كثيرون أنه أهم سؤال يواجه الولايات المتحدة اليوم: كيف يمكن للاقتصاد الأمريكي أن ينمو بمعدلات أسرع وأكثر استدامة وعدالة من ما كان عليه، كي يتمكن من الحفاظ على وضع الولايات المتحدة كقوة بارزة في العالم ولتحسين حياة مواطنيها؟

ويقر ليند، الذي أسس نيو أمريكا فاونديشن في واشنطن وألف عدداً من كتب التاريخ السياسي، من البداية بأن هذه النظرية ستجعل عدداً من القراء غير راضين، ويقول، في روح التحزب الفلسفي، سيكون من اللطيف استنتاج أن كلاً من هذين التقليدين الخاصين بالاقتصاد السياسي قدم إساهامات قيمة في نجاح الاقتصاد الأمريكي وأن الانتصار الذي أحدثته هذه القوى المعارضة كان أكثر إفادة من الانتصار الكامل لأي منهما.

ويستطرد، لكن ذلك لم يكن حقيقياً، والجيد بشأن الاقتصاد الأمريكي هو أنه إلى حد كبير ناتج من التقليد التنموي الهاميلتوني، والسيئ بشأنه هو أنه نتيجة للمدرسة الجيفرسونية المدافعة عن المنتجين.

ويقول، بنت التنمية الهاميلتونية قناة إيري، والطريق العابر للقارات والجامعات الوطنية العملاقة ونظام الطرق السريعة بين الولايات، وفي هذه الأثناء، أصبحت الولايات المتحدة عملاقاً وسوقاً متشابكاً ومكاناً يمكن أن تزدهر فيه شركات مثل ستاندرد أويل وجنرال موتورز وجون دير وسيرز روباك.

ويضيف، لعبت الحكومة الأمريكية، وخصوصاً الجيش الأمريكي، الدور الأكثر أهمية في تمويل الإبداع في مراحله المبكرة، والصناعات التي أنتجت محركات الطائرات والراديو والتليفزيون والرادار والبنسلين والمطاط الصناعي وأشباه الموصلات، انطلقت جميعها من أبحاث أو مشتريات مولتها الحكومة، وقامت وزارة الدفاع تحديداً ببناء شبكة الإنترنت.

ويقول السيد إدوارد غري، وزير الخارجية البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى، حسب وينستون تشريشل، إن الولايات المتحدة مثل مرجل عملاق، بمجرد أن توقد النيران من تحته، لا يكون هناك حد للطاقة التي يمكنه تولديها، ويقصد ليند في هذه الإشارة إلى قول إدوارد أن الحكومة هي التي كثيراً ما تقوم بإشعال اللهب من تحت المرجل.

وبمهارة كبيرة، يشير ليند إلى أن أتباع المدرسة الجيفرسونية أنفسهم كثيراً ما قاموا بتغيير جوهري عندما وجدوا أنفسهم يديرون الدولة ومسؤولين عن رفاهيتها.

وكرئيس، غيّر جيفرسون رأيه بشأن الدعم الاتحادي للقنوات والطرق والمصانع، وكان خلفه جيمس ماديسون، الذي وقع على مشروع قانون إنشاء البنك الوطني، معارضاً للفكرة في السابق.

ويضيف المؤلف إن الجيفرسونيين المعاصرين مثل ريغان وجورج بوش الابن، شنوا حملات على خفض الإنفاق من أجل توسيع الحكومة أثناء وجودهم في السلطة.

وعلى الرغم من الدقة التي تميز بها الكتاب، إلا أن أطروحته تعاني من خطأ أساسي واحد، وهو أن ليند لم يوضح أبداً كيف تمكنت الولايات المتحدة من أن تصبح أغنى دولة في العالم بمعدل دخل للفرد أعلى بنسبة 20 بالمئة منه في السويد أو كندا ونحو 30 بالمئة أكثر من ألمانيا، وزهاء 500 بالمئة أعلى من الصين، وعلى الرغم من ذلك هناك دول أخرى انتهجت السياسية الهاميلتونية أكثر من الولايات المتحدة في كثير من الأحيان، من دون أن تحقق النجاح ذاته.

وفي حين يلعب التعليم دوراً مهماً، إلا أنه ذكره في الكتاب كان متقطعاً، بينما يوجد في أنحاء الولايات المتحدة أكثر القوى العاملة مهارة وتعليماً في العالم، ساعدت العمال الأمريكيين ليكونوا من بين الأكثر دخولاً، مثلما تصف كتب التاريخ الأخرى.

وبعيداً عن التعليم، تتمتع الولايات المتحدة أيضاً بثقافة مختلفة عن أية قوة أخرى في العالم، فهي أكثر فردية وإقبالاً على المخاطرة وأكثر ارتياحاً فيما يتعلق بأعمال السوق، وهو ما قد يتوافق مع الجيفرسونية.

والتاريخ الاقتصادي الأمريكي، مثلما يحكيه ليند، عبارة عن سلسلة من ثلاث ثورات وثورات مضادة، كل منها مرتبطة بحرب حقيقية، والقرار الاقتصادي الذي انتظر المؤسسون المنتصرون في ثمانينات القرن الثامن عشر كان خياراً بين إيجاد نظام مكمل للاقتصاد البريطاني عن طريق تقديم الموارد للصناعات البريطانية الناشئة، أو إنشاء منافس وطني متكامل الأركان.

ومن المفهوم أن الجنوبيين فضلوا الشراكة لأنه كانت لديهم موارد، وخصوصاً القطن، كما أن وجهة النظر الجنوبية كانت أيضاً متأثرة بقرون من التاريخ ظلت فيها مستويات المعيشة العالمية من دون تغيير كبير.

ووضع أتباع النظرية الهاميلتونية ثقة أكبر في التغيير والتقدم الاقتصادي، وأقروا أفكار جون لوك، الفيلسوف السياسي البارز في الثورة الأمريكية، والتي انطلق منها النمو الاقتصادي والسكاني، وشجعوا هجرة المخترعين والعمال الماهرين، حيث كان هاميلتون نفسه مهاجراً، وأيدوا الدعم العام للصناعات الوليدة إلى جانب التعريفات الجمركية لحمايتها، وناصروا أيضاً النظام المالي المركزي الحديث لدفع مقابل الاستثمارات الضرورية.

وعلى الرغم من انتصار الطموحات الأكبر لأنصار النظرية الهاميلتونية، إلا أن هذا الانتصار كان مؤقتاً، وفي حين استفادت الدولة بشكل كبير، لكن بعض الناس لم يستفيدوا، وهددت التغييرات المصالح المتشعبة وأذكت المخاوف الأمريكية التقليدية من المركزية، وسرعان ما أصبح أندرو جاكسون في الجانب المضاد، يعارض بناء الطريق الفيدرالي وإغلاق البنك الوطني.

وتواصلت هذه الدوائر، قلت أم كثرت، على مدار مئتي عام، وكان لينكولن، وهو المشرع الحكومي في عصر جاكسون، الذي دافع عن الاستثمارات الفيدرالية، من أكبر المؤيدين للنظريتين الهاميلتونية في القرن التاسع عشر، وبعد أن ترك الجنوب الاتحاد، أصبح لينكولن قادراً على تولي كتلة الاستثمار التي كان أعاقها الممثلون الجنوبيون، ومن ثم بناء خطوط السكك الحديدية والطرق والكليات، وساعد في النهاية كثيراً من هذا البرامج على تحويل الجنوب إلى منطقة صناعية.

ومن الواضح أن الهاميلتونين لم يقوموا دائماً بالاستثمارات الملائمة، وكان أول طيار دعمته الحكومة الفيدرالية صامويل بيربونت لانغلي، مدير معهد سميثوسونيان، الذي تحطمت رحلاته التجريبية في نهر بوتوماك، لكن تكلف هذه الإخفاقات عوضتها إيرادات النجاحات التالية، وسرعان ما أصبح الجيش أول عميل للأخوين رايت وسمح لهما، ولقطاع الطيران الأمريكي بشكل عام، بالازدهار قبل وجود سوق خاصة.

ومن بين الأمور اللطيفة في كتاب ليند القصص الصغيرة وغير المشهورة كتلك الخاصة بالأخوين رايت، وكذلك محاولة المؤلف رد الاعتبار إلى أشخاص لم يكن التاريخ منصفاً لهم، إذ يذكر أنه على الرغم من أن ماكينلي كانت لديه بعض مشاكل المحسوبية، إلا أنه ناضل أيضاً من أجل تحديث الاقتصاد الأمريكي وكان سابقاً لعصره في ما يتعلق بالحقوق المدنية.

ويضيف إن عمالقة وول ستريت في القرن التاسع عشر مثل «جيه بي مورغان» ربما كانوا جشعين، لكنهم قدموا أيضاً تمويلاً ضرورياً للمخترعين مثل توماس أديسون.

ويشير ليند في نهاية الكتاب إلى أن المشاكل الرئيسة التي تواجه الولايات المتحدة اليوم هي تلك التي تتطلب الحلول الهاميلتونية، وأن الإبداع الحقيقي الذي يرفع مستويات المعيشة للجموع، لا يمكن أن يأتي من مخترعين منفردين، ويتطلب موارد لا يمتلكها سوى المنظمات الكبرى، كما يحتاج إلى أشخاص ماهرين، سواء أكانوا مواطنين مؤهلين أو مهاجرين يتم إفساح المجال لهم بسبب ما يجلبونه معهم من مهارات.

وفكرة أن الولايات المتحدة قد توقفت عن تقديم كثير من الاستثمارات الكبرى التي تجلب عائدات كبيرة ليست أمراً مثيراً للدهشة من وجهة نظر ليند، ويميل التاريخ الاقتصادي الأمريكي إلى السير في دوائر، فعلى الرغم من أن الطرق والجسور الأمريكية أصبحت متهدمة، والبنية التحتية لشبكة برودباند ليست عالمية المستوى، لكن الحاجة الاقتصادية للتغير ستخلق في النهاية الإرادة السياسية له، ويختتم «أرض الميعاد» بملاحظة متفائلة مثلما يشير العنوان، غير أنه يقر أيضاً بأن الفشل أحد الخيارات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق